وجهة نظر: صحافة ورقية بلا حرية
أذكر أني نشرت مقالاً قبل سنوات توقعت فيه تراجعاً دراماتيكياً لانتشار الصحافة الورقية وأهميتها، وقد ذكرت أسباباً عديدة لذلك، لكن لم يدر في خلدي أن أحد أسباب هذا التراجع سيكون تراجع حرية النشر في هذه الصحف، فقد كنا نعاني محاذير قانونية وحساسية حكومية من (تون) الحرية المرتفع، لكن يبدو أن الحساسية الحكومية لم تعد بالحالة القديمة نفسها، حيث تحول اهتمامها نحو وسائل التواصل التي أصبحت أكثر أهمية وانتشاراً واستقبالاً لأي عدد من الكتّاب وغير الكتّاب وأكثر حرية أيضاً، ومن هنا برز تأثير القوانين المقيدة للحريات واستخدامها المفرط لمنع ما يمكن منعه من الكتابات الحرة.
أكتب ذلك ليس من خلال رصدي لبعض مواطن الخلل الإعلامي ككاتب، إنما من خلال معاناتي الشخصية التي اقتربت من (القهر) وأنا أرى كتاباتي يتم منعها المقال تلو المقال، وأنا هنا لا أقصد هذه «الجريدة» الموقرة بتراجع حرية النشر ولا أستثنيها، فقد تعودت أن أنشر ما أكتبه في عدة صحف مختلفة بعضها مقالات سياسية وبعضها كتابات تاريخية وبعضها قصائد وموضوعات أدبية، تخيلوا ومن خلال إرسالي لآخر أربعة موضوعات تم نشر مقال واحد فقط وتم رفض ثلاثة، وتخيلوا أيضاً أن يتم منع نشر قصيدة ثم أتفاجأ بشرح رئيس القسم الثقافي أسباب هذا الرفض، وكيف أني كنت أقصد بالبيت الفلاني المعنى الفلاني والبيت العلاني المعنى العلاني، لأكتشف أني قلت في القصيدة أشياء لم أكن أعلم أني قلتها، وقصدت فيها أفكاراً لم أكن أعلم أني قصدتها، حتى تراءى لنا أن حضرته كقارئ أبدع أكثر مني كشاعر في هذه القصيدة.
ومن خلال منع نشر مقالين آخرين اكتشفت أيضاً أن محاربة العنصرية أو المذهبية لا يجوز صحافياً، وأن محاربة المذهبية هو مذهبية يجب ألا تنتشر، ومعاداة العنصرية هو عنصرية بحد ذاته، والمشكلة أن مشرفي المقالات في الصحف الورقية لا يحتاجون إلى تصريح صريح لمنع المقال بل يكفيهم جزء صغير من تلميح ليعرفوا من خلاله باطن الأمر أكثر مما يعرف الكاتب.
وأما إذا اقتربت من المال وشؤون المال وخفايا الأعمال فإن القيامة ستقوم وسينفخ في الصور ليبعث ما في القبور، فكيف يتأتى لمثل هؤلاء الكتاب (المفلسين) أن يكتبوا بما ليس لهم به علم وليس لديهم منه خبر.
إن الرقابة الذاتية التي كانت تميز الصحف الورقية بدأت المبالغة فيها حتى بدأت تأكل كل ما تبقى للصحافة الورقية من ثقة، فبالغت هذه الصحف بالمنع للدرجة التي بدأ الرأي فيها يتآكل وللدرجة التي لم تعد هذه الصحف تستطيع تعويض الكتّاب (الشيّاب) بكتّاب جدد، ليس لأن هؤلاء الكتاب كانوا آخر المبدعين (وقد غادروا من متردم)، ولكن لأن الكتابة في وسائل التواصل أصحبت أكثر إغراءً وأكثر حرية رغم الرقابة الشديدة والقوانين المكبلة للحريات، والكتابة في الصحف الورقية أصبحت لا تدعو للاهتمام والرغبة.