أمضيت نحو 14 يوماً في الصين، كنت واحداً من مجموعة إعلاميين يمثلون مختلف قارات العالم، شاهدنا على الطبيعة ماذا فعلت هذه الدولة وكيف هي الآن بعد كورونا.
سأترك الحديث عن المناطحة مع أميركا إلى وقت آخر، وكذلك الدور الاقتصادي وخروج هذا العملاق إلى الساحات الدولية والنفوذ الذي يمتلكه سواء عبر القوة الناعمة بالاقتصاد أو بالتحالفات التي تقيمها.
وجدت شعباً ودوداً تجاه الأجنبي، ينحني احتراماً للآخر قبل أن يبدأ الكلام، لا يزاحمك في النقاش يستمع ثم يتكلم دون أن يعلو صوته، لكن من موقع الثقة والقوة بالنفس.
مليار و400 مليون وصل عدد السكان، انتهت من سياسة الطفل الواحد منذ سنوات ودخلت في سياسة الثلاثة أطفال لمن يرغب في الإنجاب، وهذا مؤشر على زيادة سكانية لدى فئات عمرية شابة قادمة، وهو ما يمكن ملاحظته عندما تتجول في الأسواق أو تركب القطار أو الباص، نادراً ما تقع عيناك على أطفال صغار، الكل يعمل وبإنتاجية عالية، ساعة العمل عندهم تبدأ باكراً ولا تتوقف، دورة اقتصادية واجتماعية تقوم على المرأة والرجل جنباً إلى جنب، أفواج من جيل الشباب تجدها تعمل متطوعة في ساعات الفراغ، بنات جامعيات يلتحقن بدورات للتدريب بهدف كسب المال وتحسين مستوى المعيشة.
لم أجد صينياً واحداً يطلب المساعدة أو يمد يده لأحد، كبيرات في السن وفي عز الشتاء يقمن بكنس وتنظيف الشوارع دون تذمر أو تصرف غير مألوف، الكل يمشي تحت المسطرة، في الشارع والمكتب والفندق، تتعجب من الانتظام بالمرور بين السيارات وراكبي الدراجات، حيث تجدها في حالة متجانسة ومتناغمة في مشهد سلس ودون ضجيج، وحتى عندما تصطف الدرجات تجدها في حالة متناغمة دون أن يزاحم أحد الآخر أو يأخذ مكانه.
شعب فيه روح الالتزام بالنظام والقانون كأنك أمام حركة عسكر تتلقى الأوامر وتنفذ التعليمات، وفي الكثير من الأماكن المزدحمة، في المطارات والفنادق تكون أمام نموذج صيني كامل اللياقة والوقوف أمامك ليقول لك: أكمل من هنا، تقف عند إحدى بوابات الأسواق الشعبية في أي مكان عام، تنتصب أمامك قامات كأنها صنعت من التماثيل تشير بيدها إلى الوجهة المطلوبة وبالزي التقليدي ذي الألوان الزاهية.
بلد يلمع بالنظافة، أينما توجهت فلن تجد عقب سيجارة أو ورقة مرمية إلا ما ندر، وهذا الانطباع يلازمك في الأماكن التي ترتادها حتى وأنت في الأسواق الشعبية.
«كورونا» ترك أثراً واضحاً في سلوك الناس، مازال حتى اليوم أغلبهم يرتدي «الماسك» وفي أماكن أخرى يحرصون على تنبيهك بارتدائه خصوصاً في الأماكن المغلقة، بل تجد مواد التعقيم أمامك وبوفرة، تسمع بالخطابات والندوات والأنشطة التي تقام في المنتديات، أرقاماً عن حجم الخسائر والضرر الذي أصاب هذا البلد، وها هو يستأنف النشاط بحيوية وتعويض ما فات، وفي أحد مصانع الأدوية الكبرى التي زرناها استعرضوا لنا الأبحاث والأدوية التي عملوا على توفيرها للشعب بل تقديم جزء كبير من الإنتاج إلى الدول المجاورة والعالم الخارجي.
ربما كانت الثقة بالأمن إحدى أهم مميزات المجتمع والدولة، ونادراً ما يسمع المراقب عن حالات فقدان الأمن، بل في أحد التجمعات فقد زميل لنا بعض حاجياته الشخصية وسرعان ما أعيدت إليه عبر صاحب المحل الذي زاره.
تتجول بحرية في الأماكن العامة، دون خوف بل تجد نفسك مطمئناً على حالتك وأغراضك وما تملكه من مال أو غيره، أهم سبب وراء ذلك أن العقاب الصارم للمخطئ لا يستثني أحداً، الكل تحت القانون وفي غاية الشدة لمن يتجاوز التعليمات، أوقفتنا شرطة المرور وصعد اثنان منهم الباص، استدعيا السائق وسجلا عليه مخالفة، لأنه لم يلتزم أو يطلب من الركاب أن يضعوا حزام الأمان!
الصين بلد الـ56 قومية وحكما ذاتيا ونظام المقاطعات الإدارية يتحدث اليوم بلغة عالمية، وهذا ما تلاحظه في المدن والشوارع والساحات حيث الكتابة باللغة الأجنبية يزداد يوماً بعد يوم عند الفئة الشبابية خصوصا اللغة الانكليزية إضافة إلى الصينية، والإقبال على تعلم اللغات الأجنبية يزداد يوما بعد يوم عند الفئة الشبابية، هي الأولى عند كل القوميات بما فيها قومية الإيغور، وإن كانوا يستخدمون الحرف العربي فالثابت أن الدولة تحمي ثقافة وهوية تلك القوميات وتعزز لديها الانتماء الوطني.
أقدمت الدولة على حماية الهوية الوطنية من سطوة الغرب الأميركي، واستغنت عن «الواتساب» وأخواتها واستعاضت عنها بـ«We chat» واليوم يتحدثون عن «ilibiliB» كبديل عن «اليوتيوب».
قطار الصين السريع يمشي بخطى ثابتة نحو الشرق والغرب وعلينا الاستفادة منه.