بعض التاريخ يحرف، وبعضه ينسف، وكثير منه يشوه، وبعض التاريخ أيضا ينسى سريعاً.
كانوا يقولون إن التاريخ يكتبه المنتصرون أو الأقوياء، وتبقى روايتهم له هي الأكثر حضوراً رغم كل ما يتسرب من ذاكرة لرواية أخرى للتاريخ نفسه. كان ذلك منذ المطبعة الأولى التي كانت ترافق كل رحلة أو غزوة أو استعمار هنا أو هناك، ومع الوقت تطورت الأساليب ووسائل التواصل حتى قيل لن يستطيع أحد أن يزوّر أي واقعة بعد اختراع الكاميرا وخصوصاً تلك السينمائية منها التي تنقل بالصوت والصورة الحدث كما هو، فكان أن حتى هذه القناعة نسفت عندما كشف المختصون والباحثون أن الكاميرا ليست محايدة ولا الصورة أيضا التي تختلف من زاوية إلى أخرى فيتحول المعتدى عليه إلى معتدٍ، ويتحول الغازي الى محرر للعباد، ويصبح الرجل الأبيض هو الأكثر حرصا على مصلحة تلك الشعوب الساكنة في جنوب الجنوب تلك التي كانت مجرد مستعمرة له أو لأحد جيرانه البيض الآخرين!!!
تطورت الوسائل أكثر وأكثر فأصبح الفرد قادراً على فتح قناة له دون الحاجة إلى قنواتهم التلفزيونية ومحطاتهم ووكالاتهم الإخبارية أو محطاتهم المملة المحشوة برواية واحدة لصور الحاكم وأبنائه وبناته وحاشيته من وزراء وغيرهم.
يقول صديقي الصحافي الذي تضخمت الأنا عنده حتى أصبحت شكلاً من أشكال الأمراض المزمنة، يقول بفخر إنه لا توجد محطة تلفزيونية أو جريدة إلكترونية أو أي وسيلة أخرى تتحمل مقدار مهنيته وحياديته ومعرفته البالغة الدقة!!! ولذلك فقد افتتح قناته على اليوتيوب ومركزه الخاص لتدريس الصحافيين وتدريبهم على صحافة دون رقيب داخلي... إلخ. من الشعارات الرنانة الممجوجة، وعند سؤاله عن ترويجه لكتاب لشخصية معارضة معروفة عن أحداث ليست بالبعيدة بل لا تزال «طازه» في ذاكرة الكثيرين من الذين عاصروها أو حتى اقتربوا منها، يأتي رده الذي لم يتوقف ولو للحظة للتفكير فيه وحوله: «هو شخصية عاصرت الأحداث فرواها»، ولا يتوقف هنا بل يبتسم كمن يقول للسائل «ما الذي تعرفه أنت أيها الجاهل؟»، وعندما يأتيه الرد بأن هناك على الأقل ثلاثة أو أربعة أشخاص كانوا معاصرين لتلك الأحداث، بل كانوا في الدائرة الأولى المسؤولة عنها، وهم يقولون إن هذا الكاتب الشهير إما كاذب أو قد أصابه الخرف أو دفع له ليكتب رواية تتسق مع بعض «الجهات المانحة للحروب والمعارك والانتفاضات والنزاعات»، نعم فقد تحول المانحون من مانحين من أجل دعم المجتمعات والبشر نحو حياة أكثر عزة وكرامة إلى جهات تتنافس لتمويل التوترات والعنف حسب ما تدلها بوصلتها المصلحية الضيقة جداً.
لم يفكر هذا الصحافي المستقل جداً في التوقف وتصحيح مراجعته لذاك الكتاب أو حتى للقول إن هناك روايات أخرى للأحداث نفسها، بل حمل حقيبته وشعره المصبوغ باللون المحمر ووجهه الذي عبثت به يدا جراح التجميل أو خبير المكياج أو كلاهما، حمل كل ذلك واستدار راحلا برفقة الصبية الصغيرة الحسناء فهو كجامع الفراشات يعشق جمع الصبايا الحسناوات تحت مسمى متدربات على العمل الصحافي «المهني» جداً!!!
هناك أكثر من رواية للتاريخ أو للحدث نفسه ومع كثرة الوسائل المتاحة فإن كثيراً من الحقائق تضيع أو تتسرب أو حتى يتعمد إخفاؤها عبر وسائط متطورة للسيطرة على المحتوى، ألم نعرف أن منصات مثل «تويتر» و«فيسبوك» وغيرهما كلها تحذف أشخاصاً وأخباراً بعينها تحت ذرائع عدة، كلها باسم حماية حرية التعبير وعدم نبذ الآخر أو التحريض على الكراهية أو حتى الحق لكل شخص «يشبهنا» أو يروج لروايتنا أن يحلق في الفضاءات المفتوحة؟ أما أنتم فمن تكونون لترتقوا إلى تلك الدرجات من المعرفة والعلم والبحث المتعمق فهذه مخصصة فقط لنخبة يختارونها هم فقط.
في كثير من الأحيان نفكر كيف يستطيع هذا الجالس هنا الذي لم يحضر أياً من تلك الجلسات التي كنا نحن جزءاً أساسياً منها، كيف يستطيع أن يسرد روايته هو حول أحداث العريضة النسائية البحرينية مثلا في عام 1995 أو غيرها من الأحداث العربية مثل ميدان التحرير في يناير 2011، حيث يدّعي الكثيرون الآن أنهم كانوا المحركين الأساسيين لتلك الأحداث، وآخرون يرددون لقد انتصرنا لمبادئنا ويسترسلون في رواياتهم غير الدقيقه لنكون أكثر أدباً من أن نقول إنها وإنهم كاذبون مع سبق الإصرار والترصد!!!
للتاريخ روايات وعلينا أن نسعى ليتسع الفضاء لكل الروايات حتى نستطيع (ربما) نعم ربما، أن نعرف ما الذي حدث لعالمنا العربي الممتد خلال السنوات العشر الماضية وما قبلها لنحكي لأطفالنا حكايات عن بعضنا الذي ضحى بالغالي والنفيس من أجل مبدئه أو كرامة بلاده وعزة أهلها أينما كانوا.
التاريخ لا يكتبه المنتصر أو المهزوم بل هو حقنا جميعا في أن نعرف وأن نورث ذلك لأبنائنا وأحفادنا.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.