فن اللامبالاة و«حزب الكنبة»!
يسلط كتاب «فن اللامبالاة» للمؤلف مارك مانسون الضوء على أهمية القدرة على التخلص من الأشياء التي تزعجنا وتؤرقنا في الحياة والتركيز على الأشياء الأساسية والمهمة بالنسبة لكل منّا، ويشرح المؤلف كيف يمكن للإنسان العادي أن يحقق التوازن والسعادة في الحياة عن طريق التخلص من الضغوطات النفسية والاهتمام بالأشياء التي تسبب لنا السعادة.
يعتبر هذا الكتاب دليلاً عملياً على كيفية التعامل مع الحياة بشكل أفضل من خلال تغيير نظرتك وعاداتك اليومية، واستخدم فيه الكاتب أسلوباً مبتكراً يعتمد على بساطة في التعبير وعلى طرح للأفكار بأسلوب سهل الفهم ومثير للاهتمام، معزّزاً ببعض الأمثلة والقصص والتجارب.
وفي جوهره يستند الكتاب إلى فكرة بسيطة ولكن عميقة، وهي أن الكثير من مشاكلنا في الحياة تنشأ من التمسك الزائد بالأشياء والأفكار التي نعتقد أنها مهمة بالنسبة لنا، وأن الحل الأفضل هو أن نتعلم كيف نصبح «لامبالين» تجاه الأشياء التي لا يمكننا تغييرها.
الوصول إلى عتبة «اللامبالاة» يعني التفكير بشكل مختلف وتقبل الحقائق الصعبة والسلبيات والتعامل معها بطريقة إيجابية وصحيحة بعيدة عن المرهقات النفسية الرائجة كالقلق والخوف والتوتر والاكتئاب والتأثر بالضغوطات المجتمعية، الأمر الذي يترافق مع نجاح في تحديد الأهداف الحقيقية في الحياة والسعي الجدّي الى تحقيقها، دون أن ننسى حسن التعامل الايجابي في العلاقات الشخصية والعملية والمجتمعية.
اللامبالاة لا تعني بأي حال تجاهلًا للمشاكل وتخلياً عن المسؤوليات، بل هي التركيز على التفاصيل المهمة في الحياة وعدم الالتهاء بالأمور السطحية والتافهة والتي عادة ما نعطيها أحجاماً أكبر من أحجامها الفعلية فتسلب تركيزنا وتجهد عقولنا وتنهك استقرارنا النفسي والعاطفي، والمجال هنا يصبح متاحاً لأهمية العيش في اللحظة الحالية، وتقبل الواقع كما هو بدلاً من الانتظار للحظة مثالية، وذلك من خلال التركيز على الحاضر والاستمتاع بأوقاته الجميلة.
وفي السياق يجب أن نتقن كيفية القول «لا» لأشياء لا تخدم أهدافنا الأساسية في الحياة تاركين المجال للتركيز على الأشياء الأكثر أهمية وأساسية في الحياة، فكثير منّا يعانون الضغوطات النفسية والإجهاد الفكري لأنهم يحاولون دائماً قبول كل شيء وعدم رفض أي طلب، ورغم حرصهم على إرضاء الجميع قد يفشلون في تحقيق المتوقع منهم، ليس عن تقصير مقصود بل عن إرهاق حتمي واستحالة منطقية بعدم الوصول الى الكمال في أي شيء، وأمام هذا الواقع ينصح المؤلف بأن يكون لدينا أسباب واضحة لرفض الطلبات التي لا تخدم أهدافنا، وأن نتعلم كيفية القول «لا» بطريقة مهذبة ولائقة، لأن ذلك ليس بالأمر السيئ إنما يؤدي الى تحسين نوعية العيش بطمأنينة ورضا عن الذات ويساهم في تحقيق الأهداف الحقيقية وليست الوهمية لجميع الأطراف.
الحقيقة أن «الحياة رحلة وليست وجهة» وهي ليست مجموع مشاكل تحتاج إلى حل، بل تجربة تستحق العيش، ومن الغريب أن الإنسان يجهد نفسه دائماً بحل المشاكل التي ليس لديه السيطرة الكاملة عليها، بينما يمكنه توفير جهده وتوجيه طاقته للتركيز على الأشياء التي يمكنه التحكم فيها، فليس لدى المرء دائماً الجواب الصحيح على كل سؤال، وليس لديه الوقت الكافي لرفاهية إضاعة الاتجاه والخوض في مغامرة البحث عن الوجهة السليمة، فالحياة سريعة ودائمة التغيير مما يقتضي التأقلم مع تبدل أحوالها بدلاً من التمسك برغبة السيطرة المطلقة على كل تفاصيلها وأحوالها وتقلباتها.
***
على عكس ما في فن اللامبالاة الشخصية من إيجابية وحسنات، فإن اللامبالاة السياسية وعدم الاكتراث بالشؤون العامة والاستسلام للأوضاع المتردية وعدم السعي للتغيير أو التحرك للحصول على المطالب مشروعة، هي سلبية بذاتها ومشكلة خطيرة تؤدي الى تحييد الرأي العام عن المشاركة الفعالة في العملية السياسية وتسهل على أصحاب النفوذ والفاسدين التحكم بدفّة الأمور.
هذا الواقع ينطبق على جميع الدول بكل تصنيفاتها الديموقراطية وغير الديموقراطية، ففي المملكة المتحدة، على سبيل المثال، يشار بعبارة حزب «التنقل بين الحانات» أو «حزب الكنبة» للتدليل على الحركات السياسية الصاخبة وغير الفاعلة التي لا تتمتع بأي تأثير حقيقي في الشأن العام، إما لاكتفائها بالتنظير في مجالسها الخاصة والتعبير ممن على الأرائك المريحة أو من خلال مواقع التواصل الاجتماعي! وإما لإحجامها عن المشاركة في الانتخابات التي يعتبر كل صوت فيها مؤثراً في تكوين السلطات وتوجيه دفة السياسة والإدارة العامة للبلاد.
أما في الدول التي لا تعرف أو لا تعترف بالانتخابات الشفافة والنزيهة، فاللامبالاة والإحباط الشعبيان يساهمان في تكريس مسار الخطايا والجرائم المتمادية بحق مستقبل الأجيال الحاضرة والمستقبلية.
بشكل عام، فإن اللامبالاة السياسية هي مشكلة عالمية تؤثر في مستقبل أي دولة مهما كبرت أو صغرت حجماً أو عراقة أو تأثيراً، وهي تعكس مستوى منخفضاً من الوعي السياسي وتتناقض مع واجب المشاركة الفاعلة في صنع القرارات الوطنية الكبرى والنهوض بالشأن العام والدفاع عن الحقوق والحريات.
* كاتب ومستشار قانوني