تختزن ذاكرتها كل التفاصيل حتى الرائحة وعند دخولها لذاك المطعم الجبلي وموسيقى الستينيات والسبعينيات تهمس من خلف الشجر، حيث خبأت السماعات بعناية فائقة رغم أن المكان يبدو غابة في طبيعته، وليس مبتعداً عنها بتفصيلة من الزجاج هنا أو حتى الأحجار المستوردة أو قماش الأثاث، كلها متجانسة مع طبيعة المكان وسط الشجر ومشهد البحر هناك بعيداً في آخر نقطة بسفح الجبل، وقفت تحت الياسمينة وبضحكة رددت «هنا... هنا صورة أخرى»، توقفت لتوضح الأفضل أن تكون «فيديو»، وليس «ستل» نعم، نعم، ليكتمل المشهد ونور الشمس في الأفق متجهة بكسل أو ملل إلى مسكنها، ضحكت وهي تقول «ممكن إلى جانب هذه الأغنية التي أحب لالتون جون أن تكتمل الصورة برائحة الياسمين تتسلل بين الشجر والحجر؟»، ضحكنا ونحن نكرر «خلاص انتهى التصوير وعلينا التوجه نحو الطاولة المحجوزة لنا لتكون عند آخر نقطة قبل أن ينحدر الجبل بشجره وصنوبره وعصافيره وحمامه وكثير من حشرات الصيف التي تبحث عن فريسة طرية لتقرصها، فييبدأ الحك المستمر، إنه جزار الصيف البرغش بكل تسمياته على اختلاف البلدان والأماكن، تضحك وهي تتحرك بين الرقص والمشي وكثير من الغنج وكأن المراهقة بداخلها قد استيقظت عند امرأة في منتصف العقد السادس.
عند النساء الصديقات بعض التفاصيل التي لا يستطيع الكثيرون فهمها ومنهم طبعا الرجال، فهن يتخلصن من كل الحواجز والقيود وحتى العادات فقط بين الصديقات الأكثر قربا، وفي حميمية الصداقة مساحة للاسترخاء في حضرة اللا ملاحظة واللا نقد واللا اتهام، هن يعرفن أنهن قادرات على توجيه ملاحظات لبعضهن البعض دون أن يكون في ذلك تجريح أو حتى إسقاط لعادة أو تقليد مجتمعي تحول مع الوقت ليتصوره البعض على أنه جزء من القناعة أو الإيمان أو الالتزام بالدين وطبعا الأخلاق التي يكثر الفاسدون والعابثون بأعراض الناس وخصوصياتهم، يكثرون من التشدق بها فيقول لك ذاك الذي «يخبئ» الفودكا في عصير البرتقال أو الوسكي في كوب الشاب، يقول «لازم نلتزم بالأخلاق فإن الأمم الأخلاق ما بقيت...»، ويكمل دون أن يعرف أن أمير الشعراء أحمد شوقي هو صاحب هذا البيت، أحمد شوقي الذي يتقلب في قبره ككثيرين من المبدعين والأنبياء والبشر الحقيقيين في ظل لزاجة تملق والتصاق البعض بهم أو بتراثهم الغني من إبداع في الشعر أو الرواية أو الغناء أو الموسيقى والتلحين أو التوزيع وحتى الأئمة هم الآخرون يتعذبون في قبورهم حتما لما يقول البعض عنهم أو يستخدمهم لمصالحه الخاصة جداً جداً بعيداً عن تلك القيم والأخلاق.
«واو... واو... شوفوا شوفوا الشمس بدأت تنزل أكثر وأكثر في حضن البحر»، يضحكون منبهرين بانبهارها وكأنها المرة الأولى التي يخرجون فيها جماعة في طقس لتأمل غروب الشمس في آخر نهار طويل مليء بالبشر، وبقليل من الطبيعة والمصداقية والبساطة يعود الضحك على الوجوه، وتهتز الأجساد بأشكالها الستينية والخمسينية والسبعينية والثمانينية أيضا... ينفخ النادل وهو واقف من شدة زهقه من حركات النسوة التي ربما يرى هو أنهن «متصبينات»، وهو تعبير بالطبع ذكوري للنخاع إلا أن كثيراً من النساء يرددنه فقط عندما تكون الجمعة من النساء أما الرجال فحلال حلال عليهم!!! عاد ليردد «جاهزين للطلبية؟»، سؤال يبدو بريئا ومعتاداً إلا أن إحداهن التي ترصد هذه المواقف لم تتحمل وقالت «عندما نجهز سنخبرك»، توقفت الثالثة عن الضحك وهي توبخ صديقتها فقد «كسفته» أو «فشلته»، ولكنها لا تكترث، فهي منتشية بالمكان والمشهد والموسيقى، ولم تتوقف عن ترديد ليت عندنا في بلدنا الصغير مثل هذه المساحات، فإما أن تذهبي لمطعم فاخر أو لشبكات الفاست فود أو الجلوس مع الأصدقاء في بيوتهم في حضن المكيفات والهواء المختنق ليس فقط نتيجة درجات الحرارة!!!
فجأة تلمع عيناها عندما تسمع أغنية شيرلي باسي «ذس إز ماي لايف» أو هذه حياتي تتذكر هي أنها حضرتها في رويل ألبرت هول عام 1973، رغم أنها قديمة تعود الى عام 1968، تسرح صديقتها لتقول رويل ألبرت «أنا حضرتها في عين عذاري في عام 1975، وقالت حينها إنها تتمنى العودة للغناء إلى هذا الجمهور الذي لم تتوقع أنه بهذا الحماس لأغانيها ويتابع كل جديدها». صرخ جمع ما فوق الستين ما دفع بالنادل للجري نحوهن غير متوقع أنهن غير مصدقات، وكل منهن تنافس الأخرى متى، وأين حضرت حفلة هنا أو هناك في أي بلد، ولكن يعود الصمت للاستماع في حضور شيرلي باسي هذه المرأة والمغنية الفائقة الروعة والموهبة والحضور، كم تختزن الذاكرة من جمال يفوق الواقع، ويبقى زاداً وزواداً لسنين.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.