للذكاء وجوه أخرى
عادة ما يوصف شخص بالذكاء وتنفى عن آخر هذه الصفة، ويتردد ذلك أكثر ما يكون في المحافل التعليمية والأكاديمية، إذ يحظى الطالب القادر على الاستيعاب والتذكّر والتعبير أكثر من غيره باهتمام وإطراء، في حين ينبذ الذي قد يعوض فشله الأكاديمي بتملك مهارات ومقدرات وطاقات أخرى، وهذا ما قد يقود الى مقاربة الواقع بإطلالة علمية تكشف أنواع الذكاء المتعددة والمتنوعة بما يتخطى الذكاء المطلوب دراسياً.
هذا مع العلم أنه يمكن لأي شخص أن يمتلك مزيجًا فريدًا من القدرات والمهارات المتفاوتة والمختلفة التي تشكل بحقيقتها أنواعاً متعددة من الذكاء، فقد يكون لدى أحدنا قدرة استثنائية في الذكاء الشخصي أو الاجتماعي أو العاطفي، بينما قد يكون ذكاؤه اللغوي والرياضي أقل درجات، فلكل منّا تركيبة خاصة مكونة من عدة سمات عقلية وسلوكية تشكل في تفاعلها «الذكاء» الخاص بكل فرد، إذ يلفت خبير التنمية البشرية البروفيسور «توماس آرمسترونغ» إلى أن كل شخص يملك أنواعاً ودرجات مختلفة من الذكاء يمكن تحسينها وتنميتها من خلال التعلم والتدريب.
في الحديث عن أنواع الذكاء المعروفة علمياً، يبرز «الذكاء الشخصي» أو «العاطفي» بملكة فهم الذات وتنظيم الأفكار والسيطرة على العواطف والتعامل مع الآخرين بفعالية، ويشمل ذلك قدرة الشخص على التعرف على مشاعره ومعرفة قواه وضعفه وأهدافه الشخصية، والقدرة على التعبير عنها بشكل مفيد وسليم وإدارة الصعوبات والتعامل الحصيف مع الضغوطات وأسباب التوتر والإحباط، ويقترن هذا النوع من الذكاء بـ«الذكاء الاجتماعي» الذي يتجلى بقدرة الشخص على فهم الآخرين والتواصل معهم بشكل فعال وإيجابي ومشاركتهم التعاطف والتعاون وحل الصراعات وبناء العلاقات الاجتماعية الصحيحة، ويمتد ذلك الى الموهبة في قراءة لغة الجسد والتعبيرات الوجهية، وفهم مشاعر الآخرين والتفاعل مع احتياجاتهم الاجتماعية والعاطفية بحنكة.
أما «الذكاء الإبداعي» فهو يشمل القدرة على إنتاج الأفكار والحلول الجديدة وتوليد الابتكار، ويتضمن التفكير الخلاق ورؤية الأمور من منظور مختلف والتعبير عن الذات بشكل فريد، ويقترب من ذلك «الذكاء الموسيقي» وهو القدرة على فهم وصنع الموسيقى والاستمتاع بها، والقدرة على تحليل النغمات والإيقاعات والتعبير عن المشاعر من خلال العزف والغناء والتلحين، الأمر الذي يتطلب لثقله إلماماً بالنظريات والمفاهيم المتعلقة بالموسيقى والاستجابة الموسيقية وعلوم ومهارات النغمات والإيقاعات والهارمونيا، كما يدور في الفلك نفسه «الذكاء الجسدي» الذي يمكّن المرء من استخدام الجسم والتحكم بحركات الأعضاء بتنسيق وتوازن وفعالية، ومن أبرز من يوصف بهذا النوع من الذكاء الراقصون المحترفون الذين يتحكمون في حركاتهم بدقة عالية وتناغم وتناسق مع الإيقاع مما يعكس القدرة الفريدة لديهم على استخدام الجسم كأداة تعبيرية. من ناحية أخرى يلتقي «الذكاء الرياضي» بـ«الذكاء المنطقي» في فهم العمليات والمعادلات المعقدة وربط الأشياء ببعضها منطقياً والقدرة على حل المسائل المتشابكة وتحليل الأفكار والتفكير الناقد وحسن اتخاذ القرار، ويشمل ذلك مهارات تذكر الأرقام واستخدامها في العمليات الحسابية والتصدي للمسائل الرياضية والمشاكل الاجتماعية والمعادلات العلمية باستخدام مقدرات التحليل والاستنتاج، وعادة ما يتصف بهذا الذكاء جميع العاملين في حقول العلوم والرياضيات والهندسة والإحصاء والحاسوب.
ويشار الى «الذكاء اللغوي» بالقدرة على فهم اللغة واستخدامها بكفاءة وفعالية، ويشمل القدرة على التواصل بوضوح وفهم الحروف وكتابتها واستخدام اللغة بشكل مناسب في مختلف السياقات والإلمام الدقيق بقواعد النحو والصرف، فالكتّاب والأدباء والشعراء عادة ما يتمتعون بذكاء لغوي عالٍ، حيث يبرعون في استخدام اللغة بشكل فعّال للتعبير عن الأفكار والمشاعر ونقل المعلومات بطريقة متقنة، ويتمتعون بمفردات وقواعد لغوية غنية، مما يجعلهم قادرين على التواصل بشكل فعّال مع الآخرين.
ويسمح «الذكاء المكاني» للشخص بتحديد الاتجاهات وتصورها وبتحليل وتفسير الخرائط والرسومات المكانية، والتنقل في البيئة المحيطة بكفاءة، وبمقاربة علمية يستند «الذكاء المكاني» إلى مجموعة من النظريات والمفاهيم المتعلقة بالإدراك المكاني وتوجيه الحركة، مثل تحليل الصور الفضائية واستخدام الخرائط العقلية، ويمكن تعزيز «الذكاء المكاني» من خلال التدريب على تطوير الإدراك المكاني واستخدام تقنيات التوجيه والتنقل في البيئة.
اضافة الى الأنواع المذكورة من الذكاء، والتي تعتبر أكثر شهرة ويتم تداولها أكثر من غيرها، يمكن الحديث عن أنواع أخرى قد تقترب من هذا النوع أو الآخر من الذكاء أو تشكل بنفسها أنواعاً مستقلة ومتفردة، بحيث يمكن الحديث عن «الذكاء القيادي» الذي يعبر عن القدرة على تحليل الوضع، واتخاذ القرارات الاستراتيجية، وإدارة الموارد والتفويض والتوجيه الفعال وتوجيه الآخرين والتأثير فيهم، كما يمكن الحديث عن «الذكاء الأخلاقي»، أي قدرة الشخص على التفكير والتصرف بناءً على قيم وأخلاقيات عالية كالحيادية والموضوعية والنزاهة واحترام الآخرين.
وتبقى الإشارة الى نوعين غير معروفين من الذكاء هما «الذكاء البيئي» و«الذكاء الروحي» أو الفلسفي، ويعني الأول القدرة الفطرية على تحديد الأنماط والنماذج الأيكولوجية وتوقع التقلبات المناخية، وفهم الترابطات البيئية، والتعرف على الحيوانات والنباتات والعوامل البيئية المختلفة، ويشمل القدرة على التعامل مع الحيوانات والنباتات والظواهر البيئية بفهم عميق والتفاعل مع التوازن البيئي بحرص وحساسية، أما «الذكاء الروحي» فهو ملكة التفكير العميق الذي يأخذ أبعاداً إيمانية أو فلسفية، ويتجلى بالتفكّر والتدبر وطرح الأسئلة عن الحقائق الروحية والتأثيرات المعنوية والتفكير في الهدف والمعنى العميق للوجود والحياة.
* كاتب ومستشار قانوني.