أول سجل يوثق مجريات الحياة اليومية أثناء الاحتلال العراقي للكويت عام 1990، قام به مركز البحوث والدراسات بعد التحرير، كان عبارة عن استبيان يتألف من أكثر من مئتي سؤال، تم توزيعه على 30 ألف مواطن، في المدارس والجمعيات التعاونية وجمعيات النفع العام ودواوين وغيرها. حصل المركز على نحو 20 ألف إجابة، شكلت مصدراً ميدانياً عن حياة الكويتيين والحوادث التي تعرضوا لها أو شاهدوها. وبعد 30 سنة جاء من يتصدى للمهمة وهو الروائي عبدالوهاب الحمادي، حيث أصدر كتاب «أصوات تشيّد الذاكرة» الذي يندرج تحت مسمى «التاريخ الشفهي» لصمود الكويتيين أثناء الاحتلال، والذي يقول عنه المؤلف كان لحظة مثالية للقبض على الذاكرة وتقييدها على الورق.

كراريس وضعت في الكراتين تم فتحها والشروع بقراءتها وتحليلها، صفحة إثر صفحة أبصرت زمن الاحتلال الأغبر، عبر عيون ومشاعر وأحاسيس الناس، كلهم تعرضوا لذلك الخميس الأسود، كلهم عاشوا ذلك الزمن، سبعة أشهر بمقاييس المشاعر الإنسانية تعني سبعة قرون أو تزيد. يكتب الحمادي، سجلا بعد سجل قصصا إثر قصص، أخرجها في 226 حكاية دونت من وحي معاناة الكويتيين تحت الاحتلال، تلامس وجعهم، غضبهم، وهو شعور صادق ومعبر.

Ad

نقرأ بعض العناوين: لا أريد الخروج من الكويت، بلد بلا سكان، ساحة جمعية العارضية، هوية مزورة، حروب على الجدران، انقطعت أخباره، حفر القبور، أمام مدرسة الرميثية، حائط يتكلم، لصوص أوباش، دنانير ممزقة، شريط كاسيت، إنذار نهائي إلى آخر ما في الجعبة.

الأزمنة والأمكنة

يكتب الحمادي حول هذا السجل: «المحتل أراد أن يمحو بلداً وشعباً في يوم وليلة، يشطبهم من التاريخ، محتل يعيد تسمية الأزمنة والأمكنة ليملكها، غيّر أسماء الشوارع والمناطق والمستشفيات والمدارس والملاعب ومحطات المياه والكهرباء ومصافي النفط والمطار، محتل نصب صور زعيمه في كل منعطف، طرّز الشعارات التي تسبّح بحمده على جدران المدارس والأبنية الحكومية، محتل فرض تغيير العملة ولوحات السيارات والجنسية والأوراق الثبوتية. هل نجح؟ نعم، نجح في أن يمنح المأساة معنى الملهاة، لتعطي الصامدين في الوطن ابتسامة في زمن الوجوم والخوف والأمل، منحهم بعض ما دونوه، ومن قال انهم دونوا كل شيء؟ لكن ما هو موجود على الورق كفيل باستدعاء ذلك الزمان من تواريه خلف ستار مرور الأيام، وانشغالات الحياة وكوارث المنطقة المتلاحقة، والتي بدأت منذ تلك اللحظة.

كتابات سجل التحدي تعيد تعريفنا نحن وتعيد تعريف الوطن، وتوحدنا حول تلك الشجرة التي أظلتنا منذ درجنا على هذه الأرض. إن سجل التحدي بات ذاكرة، هل تكفي؟ بالطبع لا، فالوجود يظل مهدداً لولا تلاحم أبناء الوطن وتعاضد الأشقاء ووفاء الأصدقاء، دروس كثيرة يمكن استخلاصها مما مضى، ولعل للقارئ أن يكتشف من بين تلك السطور ما خفي على كاتبها الأصلي وما خفي علي أنا وأنا أقرأ وأنتقي وأنقل وأتنهد شهادة بعد شهادة، كنت أفكر بالكاتب ومن يكتب عنهم، الآخر، الوفي والخائن والمحتل والصديق والعدو... لو قابلتهم أو تواصلت معهم ماذا سيقولون؟ كيف يبررون؟ ما هي رؤيتهم للحدث آنذاك والآن؟.

أهمية الذاكرة والأجيال

عند لقائي الدكتور عبدالله يوسف الغنيم ذات صباح في مكتبه، في مبنى مركز البحوث والدراسات الكويتية، كان يحدثني عن فكرة المشروع، وتناقشنا في أهمية الذاكرة وأثرها في الأجيال، فأخبرني عن حفيده الذي زار سوقاً من أسواق الكويت، ودخل مع والديه معرضاً مؤقتاً يؤرخ للاحتلال العراقي، وما كان من الحفيد إلا أن قصد جده فور عودته للمنزل وسأله بعفوية الطفل: جدي هل تعرف ماذا فعل صدام بالكويت؟ ضحكنا من ذلك السؤال، فأمر طريف أن يسأل هذا السؤال لمن اشتغل لعقود في توثيق ذلك الاحتلال عبر إصدارات تملأ المكتبات الكويتية، لكن أمراً واحداً شغل عقلي منذ سمعت تلك القصة، وحتى نزلت إلى سيارتي وطوال الطريق إلى البيت، أترى تلك الأجيال، أجيال ما بعد الاحتلال، ستعرف ماذا حدث لوطنهم في صيف 1990م؟ هل سيعرفون ما يتجاوز العناوين العريضة ويوجزون إلى التفاصيل؟ تراهم يشعرون بمعاناة أهاليهم قبل ثلاثة عقود؟ وأسئلة أخرى على هذا النحو كانت تتوالد في مخيلتي، لذلك أرجو أن يكون هذا الكتاب كبسولة زمنية، تفلح في إدراكهم لذلك الزمان المفصلي، وتشيد ذاكرتهم، فهل تكون؟». كتاب يستحق أن تفرد له صفحات، وأن يتحول إلى فيلم وثائقي أو مسلسل تلفزيوني ليشاهده أكبر عدد من الناس.