تقرير اقتصادي: «وقف الابتعاث»... خطوة إصلاحية تتطلب إجراءات أعمق
• جودة التعليم والعائد من إنفاقه وربط مخرجاته بسوق العمل متطلبات اقتصادية وتنموية مفقودة
• فلسفة الابتعاث هي امتياز لتفوّق أو لتخصص غير متوافر وليس لسد نقص المقاعد الحكومية
تحوّل قرار وزارة التعليم العالي وقف الابتعاث في تخصصات الطب البشري وطب الأسنان والصيدلة، إلى مصر والأردن، بدءاً من العام الدراسي المقبل 2023/ 2024، الى أزمة دار النقاش بشأنها بين الأوساط النيابية والأكاديمية والصحية حول مدى صواب القرار وعدالته.
مؤسسات الدولة لا تزال تقع في نفس خطيئة الصمت عند تنامي الطرح الشعبوي في مواجهة أي قرار فني
ولسنا بمعرض تقييم هذا القرار من دوافعه الأكاديمية، إنما بآثاره الاقتصادية والتنموية التي يفترض أن تكون على رأس اهتمامات صنّاع أي سياسة تعليمية أو أكاديمية في البلاد، والتي يمكن حصرها بأمرين أساسيين، الأول كيفية ربط البعثات الدراسية بجودة المخرجات التعليمية، والثاني أثر البعثات الدراسية عموما على إصلاح سوق العمل، أحد أهم الاختلالات العميقة في الاقتصاد الكويتي.
مراجعة شاملة
فالعلاقة بين البعثات الدراسية وجودة المخرجات التعليمية لا تقتصر فقط على وقف قبول طلبة الطب في مصر أو الأردن تحديدا، إنما تمتد الى مراجعة وزارة التعليم العالي والجهاز الوطني للاعتماد الأكاديمي الشاملة لفلسفة الابتعاث الخارجي والداخلي على حد سواء من عدة نواحٍ، أهمها أن البعثة الدراسية في حد ذاتها هي امتياز للطالب المتفوق في تخصص يفترض أنه غير متاح محليا، وليس تعويضا عن إخفاق المؤسسات الأكاديمية الحكومية عن توفير مقاعد دراسية لأعداد متزايدة من خريجي النظام التعليمي العام والخاص، لذلك من غير المفهوم أن تكون نسب القبول في البعثات الدراسية مماثلة لنسب القبول في تخصصات متوافرة بجامعة الكويت، فتفقد البعثة الدراسية قيمتها العلمية، لكونها تحولت الى بديل عن توفير مقعد في جامعة حكومية، وليست امتيازا لتفوّق أو بحثا عن تخصّص غير متاح محليا.
الإنفاق على جامعة مستدامة أولى من نواحي الجودة وجذب الخبرات العلمية وتأهيل الكوادر من الصرف على البعثات
تكاليف
بل إن كلفة الابتعاث للطلاب الكويتيين تبلغ في إجماليها 540 مليون دينار سنويا - تقريبا تُصرف مناصفة بين الداخلي والخارجي - وهي ما يقلّ بنحو 20 مليونا فقط عن ميزانية جامعة الكويت السنوية، وهذا أمر بحاجة الى مراجعة جدّية، لأن الإنفاق على جامعة مستدامة كجامعة الكويت أو الجامعة الجديدة (عبدالله السالم) أولى من نواحي جودة الاعتماد الأكاديمي والتحكم بمعاييرها، فضلاً عن جذب الخبرات العلمية الخارجية وتأهيل الكوادر المحلية من الصرف على بعثات على الأغلب لم تكن امتيازاً للتفوق، بل لتعويض نقص لم يتوافر محليا، فضلا عن عدم وجود آلية لاحتساب العائد التنموي من الإنفاق المالي.
الشهادات الوهمية
وإضافة إلى ما سبق، فإنّ الحديث عن وقف الابتعاث لجامعات الأردن ومصر الطبية يأتي في سياق سنوات من الحديث عمّا يعرف بـ «الشهادات الوهمية» وتغلغل أصحابها في الجهاز الإداري الذي يربط العائد المالي والترقية الإدارية والقيادية بدرجة الشهادة أكثر من الكفاءة أو الإنجاز، فلم يعُد ثمّة ما يكبح أصحاب الشهادات الوهمية أو الضعيفة أو المشبوهة عن تولي مناصب قيادية فنية حساسة يبلغ ضررها حياة الناس ومصالحهم، وحتى صحتهم، مما يستوجب وضع معايير صارمة للتقييم الأكاديمي خارجيا ومحليا.
سوق العمل
الأمر الثاني المرتبط بالآثار الاقتصادية والتنموية لقرار وقف ابتعاث بعض التخصصات يتعلق بمدى ارتباط البعثات الدراسية، وربما نظام التعليم العالي ككل، بسوق العمل، فخريجو الثانوية في النظامين العام والخاص يبلغ عددهم هذا العام 27 ألف طالب متوقع ارتفاعهم عام 2028 إلى 38 ألفا، وصولا الى 42 ألفا عام 2035، ولعل هذه الأرقام التي تدل على شبابية المجتمع وصغر سن معظم أفراده تعتبر عامل دعم ونمو اقتصادي لأي دولة في العالم، غير أنها في دولة مثل الكويت، ونتيجة لانحرافات الاقتصاد، تعدّ هاجسا أمام صناع القرار، نظرا لضغطهم أولا على المقاعد الدراسية في الجامعات الحكومية والخاصة والبعثات الخارجية والداخلية، ثم ضغطهم الأكبر على سوق العمل، وبعدها الخدمات العامة من سكن وصحة وطرق، وغيرها.
قصور
وبالنظر الى العديد من التخصصات التي يتم ابتعاث الطلاب لها من الكويت، نجد أن عددا منها يمثّل عبئا على سوق العمل الحالي والمستقبلي، كالعلوم الإدارية والسياسية والقانون، وحتى بعض تخصصات الهندسة، ومع ذلك يتم ابتعاث العديد من الطلاب لها سنويا، فضلا عن أنّ تخصصات عديدة متوافرة أصلا في الجامعات الحكومية، وأن الابتعاث فيها لم يكن لتلقّي تعليم أفضل، بل لتورية عجز عن توفير المقاعد الدراسية، وهو ما يفتح أسئلة عن دور المكاتب الثقافية وحجم الإنفاق عليها والعائد العلمي لها، خصوصا في مسألة الحصول على مقاعد دراسية في تخصصات جديدة أو يحتاجها بالفعل سوق العمل، وهذا الأمر لا ينحصر قصوره على البعثات الدراسية فقط، إنّما يشمل أيضا المقاعد الجامعية، خصوصا الأدبية التي تضمّ آلاف الطلاب والطالبات ولا يحتاج إليهم سوق العمل.
شفافية المؤسسات
اللافت في مسألة وقف الابتعاث أن مؤسسات الدولة لا تزال تقع في نفس الخطيئة المكررة عند تنامي الطرح الشعبوي في مواجهة أي قرار فني، فنرى المؤسسات المعنية تلتزم الصمت أو تصدر بيانا مقتضبا في مواجهة جدال موسّع في وسائل التواصل والمنتديات العامة، مما يضعف حجتها وتجعل الغلبة لأصحاب الطرح الشعبوي غير الفني، حدث ذلك في صمت بنك الكويت المركزي خلال حملة إسقاط القروض والتأمينات الاجتماعية إبان حملة استنزاف أصول محفظتها الاستثمارية، بل وحتى أمام قضية شائكة تمثّلت في الادعاء بوجود آلاف المزوّرين للجنسية الكويتية خلال الانتخابات الماضية، وسط صمت الجهتين المعنيتين، الإدارة المركزية للإحصاء والهيئة العامة للمعلومات المدنية.
شبابية المجتمع تعتبر عامل دعم اقتصادي لأي دولة... غير أنها في الكويت تعدّ هاجساً أمام صنّاع القرار نتيجة لانحرافات الاقتصاد
ولعله من المفيد، في هذا الإطار، أن تستوعب الجهات والمؤسسات المعنية أن أول متطلبات مواجهة الشعبوية ومقترحاتها واعتراضاتها، يتمثل في توافر البيانات وتقديم المبررات الخاصة بأي قرار للرأي العام، من خلال أدوات إعلامية تتماهى مع تطورات عالم الاتصال والتكنولوجيا، والتي تختلف بالتأكيد عمّا تتطلبه عقود سابقة من صمت مطبق أو بيانات مقتضبة.