يكشف التاريخ السياسي الحديث عن جملة من التعقيدات المتصلة بالتركيبة الفريدة للمجتمع اللبناني والمرتبطة، سبباً ونتيجة، بالعديد من الأحداث والاتفاقات المؤثرة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وبالطبع اجتماعياً على واقع ومستقبل الشعب اللبناني منذ بداية القرن العشرين الى الآن.
فعلى أثر اتفاق سايكس-بيكو لعام 1916 التي كان محورها تقاسم السيطرة على المناطق العربية بين القوى الأوروبية المنتصرة، خضع لبنان للانتداب الفرنسي منذ عام 1920 الى حين إعلان استقلاله عام 1943، فكان لذلك تأثيرٌ واضحٌ على التكوين الدستوري والتوتر السياسي والطائفي في لبنان المستقل.
ومن ثم تأثر لبنان بشكل كبير بنتائج وتداعيات الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث استقبلت المدن والقرى اللبنانية على أثر نكبة عام 1948 وتأسيس الكيان الإسرائيلي عدداً كبيراً من اللاجئين الفلسطينيين الذين شكّل وجودهم والنقاش حول حقوقهم خللاً في التوازن الديموغرافي والسياسي والاقتصادي الموسوم بالهشاشة أصلاً، مما أدى إلى نشوب وتأجيج الخلافات السياسية التي سرعان ما تحولت إلى نزاعات مسلحة بين عدد من الأطراف والميليشيات الطائفية المدعومة من قوى إقليمية ودولية. الأمر الذي استتبع بانقسام حاد متعدد الصور والأوجه حول حق وواجب مقاومة العدو الإسرائيلي والمشاركة في تحرير القدس.
وقد نتج عن هذا الواقع المتأزم أن وضعت التوازنات الطائفية والسياسية على طاولة البحث في عدد من الاجتماعات والمؤتمرات التي استضافتها العواصم والمدن العربية، ليسجل من خلالها المؤثرون في السياسة الدولية والإقليمية أهدافهم على الأراضي اللبنانية، فكان لكل من اتفاق القاهرة لعام 1969، ومن ثم لاتفاق الطائف عام 1989، ولاتفاق الدوحة عام 2010، تأثير واضح على الواقع اللبناني اجتماعياً وسياسياً.
ففي عام 1969، ونتيجة التوترات العسكرية بين الحكومة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، اجتمعت الأطراف المعنية في القاهرة بتدخل مباشر من الرئيس جمال عبدالناصر الذي بهالته المميزة كان يمثل آنذاك القوة الإقليمية الأبرز والأكثر تأثيراً، وقد توصل المجتمعون إلى اتفاق يحدد الإطار العام لوجود المنظمة في لبنان، وينص على حقوقها والالتزامات المترتبة عليها، فنتج عن ذلك تحويل الجنوب اللبناني إلى «فتح-لاند» التي شرّع من خلالها ما سمّي «الكفاح المسلّح» للمنظمات الفلسطينية ومن يؤيدها من الأحزاب اللبنانية، ومن النتائج المباشرة لهذا الاتفاق أن تصاعدت حدة التوترات وتزايدت الاحتكاكات بين اللاجئين الفلسطينيين وجزء من المجتمع اللبناني المتخوف من تأثيرهم العسكري والاجتماعي، الأمر الذي أدى تلقائياً إلى تدهور في الأمن الداخلي واهتزاز للأمن الاجتماعي وتصاعد لأعمال العنف ودخول البلاد في حرب أهلية بأبعاد إقليمية.
ومع استمرار الحرب الأهلية من عام 1975 إلى عام 1989 نجحت القوى العربية والدولية المؤثرة بجمع الأطراف اللبنانية المتنازعة في مدينة الطائف السعودية، حيث تم التوصل الى اتفاق سياسي أدى إلى تعديل دستوري جوهري يتمحور حول إعادة توزيع السلطات بين الممثلين السياسيين للطوائف اللبنانية وتحديد نسبة المقاعد في الحكومة والمؤسسات بناءً على التوازن الديموغرافي، وذلك بهدف تحقيق السلم الأهلي وتكريس الوحدة الوطنية وتعزيز مفهوم الشراكة الطائفية في القرارات السياسية وتوسيع دائرة المشاركة للأطياف والمناطق المختلفة.
وقد نجح اتفاق الطائف- رغم ما سببه من إحباط لجزء وازن من المسيحيين- في تحقيق استقرار سياسي وأمني نسبي، منهياً النزاعات العسكرية ونازعاً فتيل التوتر بين الأطراف المتناحرة، من خلال التوافق على إعادة توحيد الجيش اللبناني وتعزيز دور القوى الأمنية وفعاليتها وحل الميليشيات وتفريغ المخيمات الفلسطينية والمناطق اللبنانية من العتاد الثقيل.
وعلى أثر اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق الشهيد رفيق الحريري، وما تبع ذلك من أحداث وخلافات كان من أبرزها انقسام الشعب اللبناني عمودياً بين شاكر وناكر للدور السوري في لبنان، أدت أحداث 7 مايو الدامية إلى اجتماع الأطراف المتنازعة في مدينة الدوحة بقطر، وخروجها باتفاق على انتخاب رئيس للجمهورية متوافق عليه، وتشكيل حكومة وحدة وطنية تضم جميع الأطراف السياسية الرئيسة، مما ساهم في تهدئة الوضع السياسي والأمني وتحقيق بعض درجات الاستقرار.
وها هي «قمة جدّة» التي اجتمع فيها رؤساء الدول العربية تحت لواء الجامعة العربية- بحضور الرئيس السوري الغائب لأكثر من 12 سنة عن الحضن العربي- تؤكد سياق «إخماد الأزمات» الذي تسير به المملكة العربية السعودية بعد اتفاقها مع الجمهورية الاسلامية الإيرانية برعاية صينية، وها هم اللبنانيون يأملون مرة أخرى أن يكون للتوازن الإقليمي أثرٌ إيجابي على وضع حدّ للفراغ في سدة الرئاسة الأولى، وبدأت الحركة الفاعلة للنهوض بالواقع اللبناني من قعر الانهيار.
***
لا شك أن هذا السرد التاريخي ليس جديداً على المتابعين للوضع اللبناني، إلا أنه لا غضاضة بالتذكير أن جميع هذه التوافقات والتوازنات الإقليمية- وإن أدت إلى بعض الاستقرارالعسكري والمجتمعي والاقتصادي- لم تفلح بوضع حلول جذرية للمشاكل البنيوية في التركيبة السياسية والاجتماعية اللبنانية المعقدة، فبقي جمر الأزمات متأججاً تحت الرماد، الأمر الذي يؤكده مؤخراً العجز المتمادي عن التصدي للاستحقاق الرئاسي، والمماطلة المقترنة بالمزايدة في شأن التعامل مع وضع اللاجئين السوريين الموجودين على الأراضي اللبنانية، والمؤثرين ديموغرافياً واقتصادياً وسياسياً وأمنياً.
ولعلّ الخطاب الإقليمي والدولي المتكرر هذه الفترة هو الأوضح في تاريخ السياسة الدولية والإقليمية المؤثرة في لبنان منذ نحو قرن من الزمن، حيث يجمع الأصدقاء والأشقاء أن على اللبنانيين أن يلتفتوا إلى تدبير شؤونهم بأنفسهم، وأن الجميع معهم إذا ما توافقوا على أمر يرون فيه خيراً لهم.
وبقدر ما يتعارض هذا الخطاب المستجد مع منطق المصالح الذي يحكم السياسة بين الدول، بقدر ما يتبين صدقه إذا ما قُرئ من زاويتين، واحدة تؤكد أن الزمان هو زمن استدارة الدول عامة الى معالجة أزماتها الداخلية المتزايدة والمتداخلة، وأخرى مبنية على معادلة الموازنة بين التكلفة والمنفعة، حيث تتزايد القناعة لدى البعض أن التدخل في الشأن اللبناني سبب ويسبب أضراراً لبعض الدول والمجتمعات أكثر مما جلب أو يجلب اليها من منافع.
والخشية دائماً في مثل هذا الواقع المعقد والغريب أن أي اتفاق يحكمه النفاق ويتحكم في نجاحه حجم الإنفاق، على أمل أن تتغير هذه المعادلة ولو لمرة في مجتمع تشبّع بالأزمات والانهيارات وأنهك بالانقسامات والنزاعات!
* كاتب ومستشار قانوني