ما الذي نعرفه عن تداول الظل Shadow Trading؟
• نظرية جديدة لحظر التعامل بالمعلومات غير المعلنة لشركات المساهمة العامة بالولايات المتحدة
• لا توجد دول تسمح بالتداول بناءً على معلومات داخلية إلا ذات الأنظمة المالية الهشّة
تعدّى حظر تجريم التداول بناءً على معلومات غير معلنة الحدودَ الجغرافية للولايات المتحدة الأميركية - بوصفها أول دولة في العالم تسنّ قانونًا ينظم تجريم مثل هذا التعامل في الأسواق المالية في بدايات القرن العشرين - إلى الغالبية العظمى من الدول على مختلف أنظمتها القانونية.
فبعد مرور نحو القرن على ذلك التنظيم، لا تكاد توجد دولة في العالم تسمح بالتداول بناءً على معلومات داخلية غير معلنة إلا عددًا قليلًا من الدول الأقل نموًّا في قارّتَي إفريقيا وأميركا الوسطى ذاتَي الأنظمة المالية الهشة.
فهدف ذلك التجريم هو الحفاظ على أسواق مال مستقرة، بحيث لا يستطيع أولئك المطلعون على مثل هذه المعلوماتِ الانفرادَ باستغلالها في التداول لبيع الأوراق المالية وشرائها لتحقيق ربح أو لتلافي خسارة، ومن ثَمّ حرمان جمهور المستثمرين غير القادرين على الوصول إلى هذه المعلومات في وقت ذروتها من أن يكونوا على قدم المساواة مع المطّلعين عليها، لتتاح لهم الفرصة نفسها لتحقيق الأرباح أو لتلافي الخسائر. وهذه الحماية - بلا شك - تمثّل ضمانة مهمة للمستثمرين المحليين في الدولة، وغيرهم من الذين يضعون أموالهم للاستثمار في بورصات أجنبية. فوجود حماية قانونية فاعلة ضد استغلال المعلومات غير المعلنة يتناسب طرديًّا مع وجود سوق مال متقدمة.
أما أصل الحظر القانوني للتعامل بالمعلومات غير المعلنة فيرجع في تطوره إلى 3 نظريات: الأولى هي النظرية التقليدية Classical Theory المتعلقة بامتناع المطلعين على هذه المعلومات من التعامل بها لمصلحتهم قبل الإفصاح عنها لعامة المستثمرين. ولأنّ النظرية الأولى غير كافية لمدّ نطاق التجريم لإفلات بعض من يطلع على المعلومات ويتاجر بها من نطاقها، أتت النظرية الثانية Misappropriation Theory الخاصة بإساءة استخدام من يتصل علمه بهذه المعلومات بحكم وجود علاقة مهنية تربط من يحوز المعلومات ومن يطّلع عليها، ومثال ذلك المحامون الذين يسدون المشورة القانونية للشركات في مجال الاستحواذات التجارية، إذ يكونون أول من يطّلع على المعلومات بعد المطّلعين أنفسهم، وقبل مساهمي الشركات المعنية وجمهور المستثمرين.
أما النظرية الثالثة فتُعْرَف بنظرية تمرير المعلومات Theory Tipper- Tippee، إذ تُمَرّرُ المعلومة غيرُ المعلن عنها من مطلع رئيس إلى غير مطلع، أو من مطّلع ثانوي عن مطلع رئيس إلى ثالث غير مطلع.
وأمثلة هذه النظرية كثيرة، أهمها دائرة العلاقات الشخصية الناقلة للمعلومات بحيث يسرِّب مطلع رئيس المعلوماتِ إلى غير مطلع، كإخبار عضو مجلس إدارة شركة مساهمة عامة زوجتَه عنها، وتمررها الأخيرة إلى أحد أصدقائها المقربين، وتُتَّخَذُ من ثَم قراراتٌ استثمارية بناءً عليها.
وما زالت هذه النظريات الثلاث تمثّل جوهر تجريم التعامل بالمعلومات غير المعلنة، ثم انتقلت هذه النظريات من الولايات المتحدة إلى غيرها من الدول التي تبنّتها كما هي من حيث إنها تضع غطاءً كافيًا لجميع الحالات المتصوَّرة لاستغلال التعامل بهذه المعلومات.
ودرجت المحاكم على اختلاف أنواعها بالولايات المتحدة في أحكامها، سواء بالإدانة أو بالبراءة، على تقديم تحليل معمّق لإحدى نظريات التجريم تلك.
لكن هيئة أسواق المال الأميركية U.S. Securities & Exchange Comission توسعت في دعوى قدّمتها أمام المحكمة الفدرالية في شمال ولاية كاليفورنيا، للمطالبة بتوقيع العقاب على مستغلي التعامل بالمعلومات غير المعلنة، استنادًا إلى نظرية جديدة تمامًا لم تعهدها المحاكم من قبل، تُسمّى: تداول الظل Shadow Trading.
وتكمن تفاصيل دعوى Securities & Exchange Comission v. Matthew Panuwat المقدمة للمحكمة نهايةَ عام 2021 في اطلاع Matthew Panuwat رئيسِ قسم التسويق والتطوير في شركة Medivation - وهي شركة دوائية لعلاجات الأورام - على معلومات داخلية غير معلنة، انتهت إليه بحكم منصبه في أحد اجتماعات الشركة، تتعلق بتقديم شركة Pfizer الدوائية ذات الصيت عرضَ استحواذ رئيس على أسهم شركة Medivation بقيمة 14 مليارَ دولار.
بعده بدقائق، غادر Matthew Panuwat الاجتماعَ، وقبل الإعلان الرسمي للعامة عن خبر الاستحواذ اشترى خيارات أسهم في شركة دوائية أخرى لعلاجات الأورام أيضًا تُدْعى: Incyte.
للوهلة الأولى، يبدو للقارئ أننا لسنا بصدد واقعة استغلال معلومات غير معلنة، لأنّ واقعة شراء خيارات الأسهم تمت على شركة أخرى ليست لها أي علاقة بشركة Pfizer المستحوِذة، وشركة Medivation المستحوَذ عليها.
ومن ثَمّ، لم يستغل رئيس قسم التسويق والتطوير في الشركة المستحوَذ عليها المعلومات التي وصلت إليه بحكم منصبه بالمخالفة للقانون.
بعبارة أخرى: الشراء أو البيع من شركات غير معنيّة ليس لها علاقة بموضوع الاستحواذ لا يثير أي مسؤولية.
لكنّ هيئة أسواق المال الأميركية كان لها رأيٌ مغايرٌ، إذ رأت أن ما قام به Matthew Panuwat يندرج تحت التعامل المحظور بالمعلومات غير المفصح عنها لسببين رئيسَيْن.
أولًا: خلال الاجتماع المقرر لمناقشة الاستحواذ، نوقش موضوع الشركات المشابهة لشركة Medivation في السوق، تلك التي يندرج نشاطها ضمن علاجات الأورام، والتي تتمتع بقيمة سوقية مقاربة، والتي قد تكون هدفًا لاستحواذات مستقبلية مماثلة.
وشركة Incyte ينطبق عليها جميعُ ما ذُكِر. ثانيًا: الخبرة المتوافرة لدى Matthew Panuwat، والتي تخوِّله التنبُّؤَ باحتمال حدوث عروض استحواذ لشركات في المجال نفسه في قادم الأيام، كان بإمكانها أن تكون كافية للحيلولة دون إتمام عملية الشراء في Incyte، لأن شراء الأسهم ما كان ليتمَّ لولا المعلوماتُ التي علم بها بحكم منصبه في الشركة، والتي لولاها لما سارع إلى الشراء بعد مرور دقائقَ على الاجتماع.
ثمّ إنّ سياسة الشركة المتعلقة بسرية المعلومات تمنع التعامل بالبيع أو بالشراء المستند إلى المعلومات السرية دون تحديد للشركات، سواء تعلقت بالاستحواذ أو كانت بمنأى عنه.
كان دفاع Matthew Panuwat ضد ادعاء هيئة أسواق المال الأميركية مستندًا إلى واقع ما حدث.
لم ينكر المدير هنا واجب الولاء الذي ترتّبه العلاقة المهنية بينه وبين الشركة، الأمر الذي يحتِّم عليه احترامَ لوائح الشركة الخاصة بالتعامل بالمعلومات غير المعلنة، والنأيَ عن أن يتربَّح من هذه العلاقة بأي شكل كان، وهذا ما حصل فعلًا، لكونه اشترى أسهم شركة لا علاقةَ لها بالمعلومات التي وصلت إليه، فلا يندرج ما قام به تحت إساءة استغلال المعلومات غير المعلنة المقننة بالقانون الفدرالي.
التفتت المحكمة عن هذا الدفاع، إذ وضحت أن ظروف الحال وتحليلات المختصين تنبِئُ بأن شركة Incyte هي الهدف التالي لاستحواذات الشركات العاملة في مجال الأورام، لأن كلًّا من Medivation وIncyte يُعَدّ، في مجال علاج الأورام، من الشركات القليلة جدًّا العاملة في السوق، والمختصة بهذا النوع من العلاجات.
لذلك، فإنّ تأثر Incyte بخبر استحواذ Pfizer على Medivation سيؤدي حتمًا إلى ارتفاع سعر أسهم Incyte.
وهذا ما حدث بالفعل، والذي أسال لعاب المدير للمسارعة إلى شراء خيارات الأسهم فيها محققًا ربحًا صافيًا بنحو 100 ألف دولار.
خلصت المحكمة إلى أن شراء أسهم شركة Incyte في اليوم نفسه يبيِّن عزمَ المدير على استغلال المعلومات لا محالة، كما أن محفظته الاستثمارية خالية تمامًا من امتلاكه لأسهم في شركة Incyte سابقًا، مما يدلل على نيّته التي دفعته إلى التداول بالظل Shadow Trading، بناءً على ما اطلع عليه من معلومات تتطلب حفظ سريتها، ولو على نفسه.
وفي يناير من عام 2022، قدم المدعى عليه استئنافًا للحكم، لكنّ المحكمة الاستئنافية أيّدت حكم محكمة أول درجة، وقضت برفض الدعوى.
بطبيعة الحال، أثار هذا الحكم غير المألوف العديدَ من التساؤلات لدى القانونيين والمهتمين بأسواق المال في الولايات المتحدة، فبعضهم رأى أن المحكمة توسَّعت في تطبيق القانون الفدرالي المانع لاستغلال المعلومات غير المعلنة، إذ كيف تتوسَّع المحكمةُ في تفسير نصوصٍ لها طابعٌ جنائيٌّ متعلقةٍ بالتجريم، ضاربةً عُرْضَ الحائط بأبسط المبادئ القانونية المتعارَف عليها؟
كما وُجِّه نقدٌ قاسٍ لخضوع المحكمة لسياسات الشركة المتعلقة بسريّة المعلومات المانعة لشراء أو بيع الأسهم دون تحديد، بوصفها سياسة مطاطة، فهل أذعنت المحكمة لهذه السياسة مُخالِفةً القانونَ الفدرالي؟ إن صح ذلك، فإن سياسات الشركات في المستقبل ستعلو نصوصَ القوانين الفدرالية، مما يسبب مخالفاتٍ صريحةً تؤدي إلى عدم يقينٍ قانونيّ.
في الحقيقة، على الجانب الشخصي، لم أستغرب صدور الحكم بصورته هذه، لكونه صادرًا عن المحكمة الفدرالية الواقعة في شمال ولاية كاليفورنيا بمدينة سان فرانسيسكو ذات التوجه التحرري في مدينةٍ تُعَدّ معقلَ الليبراليين في الولايات المتحدة الأميركية، بمَنْ فيهم النخبةُ القانونية من قضاة عيَّنَهُم رؤساءُ ديمقراطيونَ مثل كلينتون، وأوباما، وبايدن، فهي محكمة فدرالية وليست محلية على مستوى الولاية.
فتوجه القضاة يبدو واضحًا بتشددهم مع مَن يتربّح منفردًا دون غيره مستغلًّا معلوماتٍ غيرَ معلنة للعامة.
فمنذ ستينيّات القرن الماضي، استوعبت محاكمُ ولاية كاليفورنيا - وما زالت - نظرياتٍ جديدةً قد لا يُكْتب لها النجاحُ في ولايات أخرى يكون القضاءُ فيها أكثر تحفّظًا. لكنّ تأثير ولاية كاليفورنيا لا يستهان به.
فما يبدأ هناك أمرًا غير مألوف قد ينتهي به المطاف إلى عَدِّه أمرًا غيرَ مستغرب بمرور الوقت.
* أستاذ القانون التجاري وأسواق المال
كلية الحقوق - جامعة الكويت