وجدت في شخص اللواء فهد الدوسري بعد تقاعده نسخة جديدة ومنقّحة، دفعتني للقول، يا ليت أن يتحول هذا الاسم إلى «مدرسة» نستفيد منها، أعطى للتقاعد معنى جميلاً ومتجدداً، هو لم يتسكع في المجمعات التجارية أو ينتقل بين عواصم دول العالم للترفيه والسياحة، أو يذهب إلى معارض السيارات ليمارس هواية التبديل بالموديلات الجديدة... بل أضاف وتابع كل ما له علاقة بالتخصص الذي يهواه وأهله لأن يوضع في قائمة الأشخاص المؤسسين لاستخدامات «DNA» في المجال الجنائي وغيره.
أدخل اللواء الدوسري، جميع بياناته على موقع شركة مجموعة «HERITAGE» وهي إحدى أهم خمس شركات عالمية متخصصة في عالم الـ DNA وما يسمى بدفاتر الحالة المدنية، جاءه الرد سريعاً... وجدنا شخصاً يحمل نفس السمات والمواصفات الجينية موجوداً في أميركا منذ عام 1977؟ أدرك «أبو إبراهيم» رأساً أنه هو المعني، فقد زارها في ذاك العام وقدم وثائقه وبصمته.
كانت هذه المحاولة نوعاً من «التمرين» اليومي الذي يلازمه في أعماله اليومية بعد التقاعد، فهو اليوم منشغل بالتفكير والإعداد لعمل بحثي تحت عنوان «الأدلة المادية في عصر الذكاء الاصطناعي» أي معرفة تأثير تطبيقات هذا العملاق التكنولوجي المخيف على البحث الجنائي باستخدام «DNA» و«البيومتريك» وشبكات اتصالات الهواتف... وهذه المرحلة القادمة ستكون هي الشغل الشاغل للعالم «اللواء» الدوسري باعتباره أحد المهتمين والمتابعين والمختصين ومن ضمن 56 مليون شخص يستخدمون الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم يومياً، والعدد في ازدياد.
لا يفارقه جهاز الأيباد ولا الهاتف المحمول، يجد متعته في قراءة كتاب جديد أو العثور على بحث علمي له علاقة بالـ DNA ثم يحدثك عن قواعد بيانات الحمض النووي لـ 100 مليون نسمة (DATA BANK) لديهم وعن هجرات العبيد في أميركا ومعرفة الأصول والعرقيات وتحليل الشيفرات الجينية لهم منذ 500 سنة.
يعتقد صاحب الخبرة الطويلة في الإدارة العامة للتحقيقات والأدلة الجنائية أن البحث الجنائي هو انعكاس لواقع المجتمع وبالتالي هو مرآة لمستوى الوعي والثقافة والتعليم، وعليه ووفقاً لما توفرت لديه من معلومات، فإن دولة الكويت عملت على توظيف «أدوات التحقق» واستخدماتها، فنظام «البيومتريك» وضع على الطاولة عام 2014 تقريباً، ونحن في مرحلة متقدمة من خلال جواز سفر إلكتروني ونظام التتبع وشبكة الهواتف المحمولة والبصمات، وندخل في المرحلة الثانية من استخدمات DNA باسترجاع البيانات، والواقع يقول إن أشقاءنا في الخليج استخدموا هذه التقنية بعد الكويت، لكننا نحن نسير ببطء وهم تقدموا... يستذكر «أبو إبراهيم» كيف استخدمت الكويت الأقمار الصناعية بعملية التتبع في «قضية وحش حولي» ووصلوا فيها إلى مكان وجود أحد المتهمين في سوهاج، وفي هذا الملف برز قيادي عسكري متميز يعمل بالمباحث الإلكترونية.
للكويت تاريخ طويل في هذا الشأن، يروي فيها واقعة لها دلالات كبيرة من خلاله وثيقة بريطانية مؤرخة بسنة 1937، عندما راجت قضية بيع لحم القطط في مطعم لصاحبه من الجالية الهندية مما تسبب في خلق حالة من الرعب بالمجتمع وبعد عمليات البحث أيام الشيخ عبدالله الخليفة وجدوا «خصلة شعر» أرسلوها إلى المستشفى الأميركاني في حينه لإجراء فحص مجهري بالميكروسكوب، تبين لهم أن «خصلة الشعر» هذه عائدة إلى «قطوة» وصارت القضية تعرف «ببيع لحم القطط»، وانتهت إلى إغلاق المطعم ومحاسبة صاحبه، وهناك حالات مشابهة بتتبع الأثر عند أهل البادية وأيضاً باللجوء إلى المعتقدات الدينية عن طريق رجال دين وغيرها.
اللواء فهد الدوسري قد لا يكون حالة فريدة من نوعها، لكنه شخصية متميزة معطاءة فيها شحنات من التفاؤل والإيجابية، والتقاعد من «الوظيفة» لا يعني التكاسل وإنما استكمال دورك في الحياة وفي البحث والقدرة على الإنتاج، ما أحوجنا إلى هذا النوع من الأشخاص، فأحلى سنوات العمر بعد الخمسين، وهي مرحلة نقل الخبرات إلى الآخرين، وتجديد العطاء، ونوعية الحياة «تتجوهر» وتحلو كلما زادت فيها سنوات العمر.