ماذا عن جلسة التعادل السلبي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية؟
من السهل على المتتبع للشؤون اللبنانية أن يعتبر الجلسة الثانية عشرة التي عقدها المجلس النيابي في 14 الجاري لانتخاب رئيس للجمهورية أنها الجلسة الأولى فعلياً بوصفها شكّلت مناسبة لسقوط الأقنعة وانكشاف المواقف.
أول ما يميّز هذه الجلسة أنها أتت لتحقق ما سبق أن التزم به رئيس مجلس النواب بالدعوة إلى جلسة انتخابية قبل منتصف شهر يونيو بمجرد توافق المسيحيين على مرشح «جدّي»، وهذا ما يعني - رغم التصريح العلني بالعكس - اعترافاً ضمنياً من قبل الثنائي الشيعي «حزب الله - أمل» بجهاد أزعور كمرشح اقتنع به الطرف المعارض جديّاً ليواجه به ترشيح سليمان فرنجية في السباق الرئاسي. وهذا بصرف النظر عما أشيع عن تعرض الرئيس برّي لضغوطات وتهديدات أميركية بشأن هذه الدعوة.
وأبرز ما يرتبط بالجلسة أنها أكدت النية المعلنة لجميع الأحزاب المسيحية على لعب دور حاسم في رسم مصير لبنان للسنوات الست القادمة، فتقاطعوا على من وجدوا فيه مرشحاً يستطيع أن يعرقل وصول الوزير فرنجية إلى كرسي بعبدا بما يمثله ذلك في نظرهم من تعطيل لهيمنة النظام السوري وحلفائه اللبنانيين على سياسات وقرارات المنصب المسيحي الأول في الجمهورية اللبنانية. وهنا وضع جبران باسيل نفسه أمام محكمة الرأي العام المسيحي: فهل سيتمسّك بتقاطع تعطيلي يقرّبه ربما أكثر من الأطراف المسيحية الأخرى والرأي العام المستهدف من قبله انتخابياً، أم ستقوده الحاجة الاستراتيجية -تحت غطاء الواقعية المغلّفة بشعارات التلاقي الوطني- إلى الالتفاف مجدداً نحو حزب الله وتأمين الغطاء المسيحي لمرشح آخر يتبناه الحزب؟!
من جانب آخر، أظهرت الجلسة مزيداً من التباين في مواقف «التغييرين» وغموضاً مرتبكاً في الصوت «السني» مع وجود خجول لما سمّي بقوى الوسط والاعتدال، ويبقى للتحالف التاريخي المتين بين وليد جنبلاط ونبيه بري الكلمة الفصل في تحديد المسار النهائي لما ستؤول إليه الأمور على المستوى الداخلي رغم ما أظهرته الجلسة من تباين في مواقف كتلتيهما النيابيتين.
وآخر ما يمكن أن توصف به هذه الجلسة أنها امتداد طبيعي في ملابساتها ونتائجها لتاريخ معقّد وطويل من الانتخابات الرئاسية اللبنانية التي لم تكن يوماً -على اختلاف وتعدد مراحلها- مسألة دستورية تقليدية، أو حدثاً اعتيادياً يمرّ بهدوء وسلام في جو ديموقراطي مفترض، بل هو مخاض عسير يقترن منذ فجر الاستقلال إلى اليوم بسلسلة من التعقيدات والخلافات والانقسامات الحادة وبالطبع بمجموعة من المصالح السياسية والخاصة، الخارجية والداخلية!
ففي عام 1943، فاز الرئيس بشارة الخوري بالولاية الأولى على أثر سلسلة من الاحتجاجات والحركات الوطنية التي أدت إلى انسحاب القوات الفرنسية من لبنان وإعلان الاستقلال. وقد بقي الرئيس في منصبه إلى أن انتهى عهده نتيجة خلافات سياسية وتوترات بين المؤيدين له ومن يعارض توجهاته ويتهمه بتغطية فساد المقربين منه، مما أفضى فيما بعد إلى انتخاب الرئيس كميل شمعون الذي استمر في منصبه إلى عام 1958، حيث جرى تنظيم انتخابات رئاسية جديدة فاز فيها اللواء فؤاد شهاب، في ظل أزمة سياسية واضطرابات داخلية سمّيت بالحرب الأهلية المصغرة.
وفي عام 1964 تم انتخاب المحامي شارل حلو خلفاً للرئيس فؤاد شهاب الذي امتاز عهده بإصلاحات بنيوية نجح في تحقيقها مقابل معارضة سياسية شرسة لنهجه المرتكز على أذرع أمنية تم تضخيم حجم التجاوزات التي نسبت إليها. ومن ثم انتخب الرئيس سليمان فرنجية عام 1970 في حالة من التوتر والصراع السياسي، مهّدت فيما بعد لاندلاع الحرب الأهلية عام 1975، مما أفضى في عام 1976 إلى انتخاب الرئيس إلياس سركيس الذي انتهى عهده بالاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982 وانتخاب الرئيس بشير الجميل في ظرف انقسامات حادة في المجتمع اللبناني وتراشق بتهم العمالة والتخوين وتصفية حسابات دموية، أدت إلى اغتيال الرئيس بعد 21 يوماً من إعلان فوزه، الأمر الذي سهّل انتخاب شقيقه أمين الجميل رئيساً للبلاد في جو من التقاتل والانقسام الطائفي الحاد والتدخل الأجنبي في الساحة السياسية اللبنانية.
وفي عام 1989، وعلى أثر تعذّر التوافق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية، وبعد فترة انقسام حاد بين حكومتين، واحدة انتقالية وأخرى مُقالة، شهد خلالها لبنان عدة جولات قتال عنيفة، تم انتخاب النائب رينيه معوض رئيسا للجمهورية، الذي تم اغتياله في ذكرى الاستقلال بعد أيام معدودة من إعلان فوزه، مما أدى إلى تعقّد الأمور وتزايد الخشية من تدهور الوضع السياسي والأمني، وسرّع في انتخاب الرئيس إلياس الهراوي، الذي بعد انتهاء ولايته الثانية عام 1998، فرض النظام السوري المهيمن على الوضع السياسي اللبناني على النواب انتخاب حليفه قائد الجيش إميل لحود رئيساً. وفي منتصف ليل 23/24 نوفمبر 2007 انتهت الولاية الثانية للرئيس لحود، ليدخل لبنان فراغاً رئاسياً أعقب الزلزال الذي سببّه اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005 وانسحاب الجيش السوري من جميع الأراضي اللبنانية، لينتهي الأمر إلى التوافق على انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للجمهورية على أثر توترات سياسية وأحداث أمنية خطيرة تمثلت في دخول حزب الله إلى بيروت في 7 مايو 2008. وكما بدأ عهد الرئيس سليمان بفراغ، انتهى بفراغ آخر، ولكن أطول هذه المرة، تخلله شلل شبه تام للمؤسسات الدستورية اللبنانية وانقسام حاد بين محورَي 8 و14 آذار، الأمر الذي انتهى بتمكّن حزب الله وحلفائه من فرض العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية عام 2016.
خلاصة القول إن نتائج الانتخابات الرئاسية في لبنان هي حصيلة توازن إقليمي يفرض توافقاً داخلياً، وهذا ما عنونت به مقالي السابق عن المسألة.
***انتهت جلسة 14 يونيو بإعلان كل من الفريقين المتنافسين الفوز المعنوي! وهذا أسلوب شعبوي خبره اللبنانيون عند كل الاستحقاقات السياسية أو الانتخابية المهمّة، وكان آخرها إعلان كل من التيار الوطني الحرّ وحزب القوات اللبنانية عن أكبر كتلة مسيحية في الانتخابات النيابية الأخيرة، وذلك رغم أنف واقع الأرقام وحقيقة النتائج!
حقيقة هذا الفوز المعنوي الذي يروّج له كل من الفريقين المتعارضين في السباق الرئاسي إنما هو تعادل سلبي نجح من خلاله كل فريق في إفشال مساعي الفريق الآخر بالخروج بانتصار سياسي واضح، إذ كان مسعى الفريق «السيادي» أن يحصل مرشحه على خمسة وستين صوتاً، وهو نصاب النجاح في الدورة الثانية في حال انعقادها، مما يمكنهم من تسويق الأمر في المجتمع الدولي على أنه تعطيل واضح من الثنائي الشيعي للانتخابات الرئاسية، مما يمهّد في نظرهم لمزيد من الضغوط الخارجية على الثنائي الذي سعى بجميع الوسائل في الجلسة وما قبلها لتأكيد الحضور الفعلي لمرشحه بزيادة عدد الأصوات التي يحصل عليها في الصندوق.
النتيجة المقروءة للجلسة: تراجع في حظوظ الوزير جهاد أزعور بفعل الرفض الحاسم لاسمه من قبل حزب الله نتيجة ارتباطه عضوياً بالبنك الدولي وارتباطه محلياً بالرئيس فؤاد السنيورة، مع ما يمثله الأخير من خصومة سياسية شرسة للحزب وتوجهاته، وهذا ما يبرز مجدّداً فرص وصول مرشح ثالث يبدو إلى الآن أنه قائد الجيش أو الوزير زياد بارود، أو أي شخصية أخرى تمثّل تقليدياً الوجدان الماروني وتحظى ممارساتها برضا حزب الله كأسماء معروفة من آل البستاني أو آل الخازن أو كشخصيات مرتبطة بالبطريركية المارونية من العمق الكسرواني.
وإذا ما تجاوزنا الضغوط الخارجية المرتقبة، ولا سيما ما بعد لقاء باريس بين الرئيس الفرنسي وولي العهد السعودي، وبعود على بدء في التاريخ المعقّد للانتخابات الرئاسية اللبنانية، من السهل الاستنتاج أنه وفقاً لما أثبتته السوابق، فإن اللجوء للخيار الثالث لن يكون إلا من خلال مسارين رئيسيين لا ثالث لهما، واحد تفرضه الضرورات الأمنية، وآخر تفرضه المعادلات الدولية التي تفرض توافقا داخليا.
فهل سيعاند حزب الله طويلاً بالتمسك بمرشحه بانتظار تسويات دولية يبدو نَفَسها طويلاً لطرح أو قبول مرشح ثالث يؤمّن له التيار الوطني الحر «ميثاقية» النصاب بصرف النظر عن الرفض المسيحي له في صندوق الاقتراع؟ أم أن أزمة سعر صرف الدولار المتوقعة بعد انتهاء ولاية حاكم المصرف المركزي ستؤدي قريباً إلى توترات اجتماعية وزعزعات أمنية، مما يظهّر اسم العماد جوزيف عون من خلال حكمة مواجهتها ويمهد لوصوله الى كرسي بعبدا؟
سؤالان جوهريان يتفقان مع منطق التعقيدات اللبنانية، لكن الإجابة عنهما تدخل في خانة التكهّن لا التحليل المؤدي إلى إجابة شبه حاسمة وصحيحة.
* كاتب ومستشار قانوني