كشفت المحاولة الأخيرة من رؤساء وممثلي عدد من الدول الإفريقية للوساطة بين روسيا وأوكرانيا بمبادرة سلمية من عشر نقاط، سارع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى رفضها، عن ضرورة العودة إلى ما سبق وأعلنه مفوض الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في مستهل المواجهة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا في فبراير 2022، حول أن «أوكرانيا مدعوّة إلى حسم النزاع مع روسيا في ساحة القتال». ولم يكن الأمر في حقيقته وجوهره للتوصل إلى مثل هذه النتيجة، يحتاج إلى جولة جديدة من مثل هذه الجولات والمحاولات والمحادثات، بعد أن كان الجانب الأوكراني كشف غير مرة عن أنه غير مهتم بأي وساطات لا تشمل الحفاظ على أوكرانيا ووحدة أراضيها.

كما أن الأمر لم يكن في حاجة إضافية إلى تكرار اعتراف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن بلاده «تعرضت لخدعة جديدة»، على نحو يعيد إلى الأذهان ما سبق وأعلنه أسلافه منذ سنوات حكم آخر رئيس للاتحاد السوفياتي ميخائيل غورباتشوف، وأعاده إلى الأذهان الرئيس الروسي الأسبق بوريس يلتسين في أكثر من مناسبة وتاريخ. وكان غورباتشوف أول من اعترف بخداعه من جانب حلف شمال الأطلسي الذي قطع له وعداً «زائفاً» بعدم التوسع شرقاً، بعد الإعلان عن توحيد الألمانيتين، وحل حلف وارسو في فبراير 1991.

Ad

وكان بوتين عاد ليعترف مجدداً بأن بلاده «خُدِعَت» حين انتظرت سُدى تنفيذ «اتفاقيات مينسك» التي وُقِّعت تحت رعاية «مجموعة نورماندي» بين عامي 2014 و2015، وهو ما أكدته المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند باعترافهما بأن الاتفاقيات كانت تستهدف توفير «الفسحة الزمنية» اللازمة لتدريب وتسليح القوات المسلحة الأوكرانية بما يتسنى معه تحرير كل الأراضي الأوكرانية «بالقوة المسلحة».

وها هو بوتين يعترف مجدداً بأن قواته المسلحة عادت وانسحبت من محيطي كييف وتشيرنيجيف التزاماً بما وقعه ممثلا الجانبين الأوكراني والروسي بالأحرف الأولى في إسطنبول في 29 مارس 2022 تحت عنوان «معاهدة الحياد الدائم والضمانات الأمنية لأوكرانيا». وإذ عرض الرئيس الروسي هذه الوثيقة على ضيوفه الأفارقة ممن جاؤوا إليه يعرضون مبادرتهم ذات النقاط العشر، قال إن كييف رمت في «مزبلة التاريخ» ما توصلت إليه مع الجانب الروسي، من معاهدة جرى التوقيع عليها بالأحرف الأولى تضمنت 18 بنداً، وما تشمله من ملاحق تتعلق بكل مفردات القوات المسلحة والأسلحة والمعدات العسكرية، وليعود ثانية ويتهم كييف بـ«خدعة» جديدة، معتبراً أنها «استغلت اتفاقية تصدير الحبوب والأسمدة تحت رعاية الأمم المتحدة وتركيا، لتمرير مخططاتها الرامية إلى تصدير غلالها إلى البلدان الأوروبية بالدرجة الأولى، خصماً من مصالح البلدان النامية، والإفريقية منها على وجه الخصوص».

وبعيداً من «تقدير» ما تعرضت له القيادات السوفياتية، وبعدها الروسية من «خداع تكرر في أكثر من تاريخ، وأكثر من مناسبة»، بما لا يليق بدبلوماسية لطالما عُرِف عنها الكفاءة وبُعد النظر، والقدرات المتميزة على مدى قرون طويلة، يمكن القول إن جولة الوسطاء الأفارقة كانت فرصة جديدة نجح الرئيس بوتين من وجهة نظره في «انتهازها»، لمواصلة «فضح» المخططات الغربية.

ويذكر المراقبون أن ميدينسكي كشف في المفاوضات مع نظيره الأوكراني التي بدأت في بيلاروس تحت رعاية رئيسها ألكسندر لوكاشينكو، وتواصلت في إسطنبول تحت رعاية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، عن النقاط الرئيسة في هذه المعاهدة، ونصت على ما يلي:

• عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي

• عدم تملك الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل

•عدم نشر القواعد العسكرية الأجنبية والوحدات العسكرية في الأراضي الأوكرانية

• الالتزام بعدم إجراء مناورات عسكرية، إلا بموافقة الدول الضامنة، ومنها روسيا.

أما عن الموقف من شبه جزيرة القرم وأراضي منطقة الدونباس في جنوب شرقي أوكرانيا، فقد أشار الجانب الروسي إلى أنه لم يتغير، بمعنى عدم التراجع عما سبق وأعلنته روسيا من اعتبارها جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الروسية، فيما طرح الجانب الأوكراني استمرار التفاوض بشأنها في غضون 15 سنة، يلتزم الجانبان خلالها بعدم اللجوء إلى الأساليب العسكرية لحلها. وعاد بوتين ليشير إلى انسحاب القوات الروسية التي كانت حاصرت كييف، ومقاطعة تشيرنيجيف، من دون تفسير لتعجل الجانب الروسي بدء تلك العملية بموجب المعاهدة الموقّع عليها بالأحرف الأولى مع الجانب الأوكراني، فيما كان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي سارع إلى إعلان تراجعه عن الالتزام بما جرى التوصل إليه في إسطنبول، مؤكداً عدم استعداد أوكرانيا للدخول في أي مفاوضات مع الجانب الروسي، قبل انسحاب القوات الروسية من كل الأراضي الأوكرانية، والعودة الى حدود عام 1991. بل ومضى زيلينسكي إلى ما هو أبعد بطرحه المزيد من الشروط، ومنها رحيل الرئيس بوتين عن الحكم، وغير ذلك من الشروط التي تتجاوز «العقل والمنطق».

ترافق ذلك مع إعلان الإدارة الأميركية عن حقيقة مواقفها، وما كشف عنه الأمين العام لحلف الأطلسي ينس ستولتنبرغ ومفوض الشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، بتصريحاتهما حول «ضرورة حسم النزاع في ساحة المعارك».

على أن كل ذلك لم يكن ليكون القول الفصل، على ضوء ما نشهده من متغيرات على أرض الواقع، تقول إن روسيا بكل ما تملكه من مقدرات، وتاريخ يستند إلى جغرافية الدولة الأكبر مساحة في العالم، بثروات طبيعية تُقَدّر بما يزيد على 30 في المئة من ثروات هذا العالم، لم تكن أيضاً لتستكين إلى تصريحات على غرار ما صدر عن بوريل أو ستولتنبرغ.

وكان بوتين تحدث عن استنفاد أوكرانيا لما كانت تملكه من قدرات عسكرية «وطنية» بما تكبدته من خسائر خلال الأيام القليلة الماضية، إلى جانب نجاح القوات الروسية في تدمير ما يقرب من 30 في المئة مما وصل إليها من الأسلحة والمنظومات الصاروخية الغربية كما تقول موسكو، بما يعني من وجهة نظر روسية أنها تحقق تدريجياً بعض ما أوجزته من مهمات في مستهل عملياتها العسكرية، وما يتسق مع تهديدات بوتين باستعداد قواته للمضي في هذا الطريق.

وأشار في هذا الصدد إلى الدبابة «ت-90 بروريف» (الاختراق) التي قال بقدراتها الفائقة التي «لا مثيل لها»، فضلاً عن تكثيف المؤسسات الصناعية العسكرية لنشاطها الذي يتواصل «ليل نهار».

ورغماً عن ذلك فإن القيادة الروسية لا تكف عن الإعراب عن استعدادها لمواصلة المفاوضات مع كييف، لكن شريطة إعلان أوكرانيا رفضها الانضمام إلى حلف الأطلسي، والعودة إلى الوضع المحايد وتوقف الغرب عن إمداد كييف بالأسلحة.

وأضافت المصادر عينها ما سبق وأعلنته من تصريحات يبدو بعضها أقرب إلى الشروط، عن احتمالات مواصلة القوات الروسية العمل من أجل الاستيلاء على مزيد من الأراضي الأوكرانية، بوصفها «مناطق عازلة منزوعة السلاح»، في حال عدم توقف الغرب عن إمداده للقوات الأوكرانية بالأسلحة «بعيدة المدى».

وإذا كانت قيادات حلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي تعود من آن لآخر عما سبق وأعلنته حول «ضرورة حسم الصراع في ساحة القتال»، بما تقوله عن أن القيادة الأوكرانية هي وحدها التي تملك الحق في تحديد الشروط المناسبة للمفاوضات، فإن الواقع الراهن يقول إن القضية برُمتها صارت رهن إرادة الدوائر الغربية بوصفها الجهة الوحيدة التي تملك قرار «توقف القوات الأوكرانية عن مواصلة القتال»، في حال اتخاذ قرارها بوقف إمدادها بما تحتاجه من أسلحة. وذلك ما يظل أمراً بعيد المنال، على ضوء ما يحتدم من جدل بشأن مدى استعداد البلدان الغربية لقبول ما طرحته موسكو في صدارة أهدافها حول «اجتثاث جذور النازية» و«القضاء على النازيين الجدد» في أوكرانيا.

سامي عمارة*