«فاغنر» فتحت ملف الميليشيات ولم تغلقه
«فاغنر» ليست نبتة شيطانية لا أب لها ولا أم، بل هي «بنت النظام» وأبوها كذلك، رعاها وأغدق عليها المال والسلاح حتى كبرت وقويت شوكتها، وروسيا ليست وحدها في خلق ميليشيات مساندة وموالية، فأميركا سبقتها بما يعرف بـ «بلاك ووتر»، وإيران خلقت ميليشيات لها في العراق ولبنان واليمن.
تمرد «طباخ بوتين» وفتح الملف ولم يغلقه، ملف الميليشيات صاحبة الأدوار القذرة حتى لا تتلطخ سمعة النظام أو يتعرض لمساءلات ومحاكمات قانونية، بسهولة يمكن التنصل من أفعالها: نحن لا علاقة لنا بهم، هؤلاء مرتزقة أو مجموعات لا صفة رسمية لها في مؤسساتنا الرسمية والعسكرية.
هل انتهت قصة «فاغنر» بالمصالحة التي تمت بمبادرة بيلاروسيا؟
الوقائع تشير إلى أن بوتين ما زال بحاجة إلى مجموعات أشبه بكاسحات الألغام في حربه ضد أوكرانيا أو في حروب أخرى وساحات دولية، و«فاغنر» لديها سوابق ومهام أسندها لها النظام الروسي، تماماً كما أسندت أميركا إلى «بلاك ووتر» مهام قذرة في العراق أو في غيره من الدول.
لنر ماذا حدث في السودان على سبيل المثال مع «قوات الدعم السريع» التي باتت تماثل قوة الجيش النظامي باستثناء عدم امتلاكها طائرات عسكرية، ففي الأصل ولدت مشوهة، ميليشيات خرجت من رحم الحروب الأهلية، وتوسعت مع الوقت حتى أصبحت رديفاً للقوات المسلحة النظامية، ولكن في لحظة ما انقلبت على صانعها وطرحت نفسها كبديل للوثوب على السلطة!
ربما كانت فكرة الحشد الشعبي أقرب لحال «فاغنر» الروسية، وإن لم تخرج من حدود العراق كما حال «فاغنر» لكنها في النهاية ولادة غير طبيعية لقوى عسكرية ميليشياوية، على حساب الدولة والمؤسسة العسكرية.
لبنان أنتج نماذج متعددة من الميليشيات منذ وجود المقاومة الفلسطينية المسلحة مروراً بالحرب الأهلية عام 1975، وصولاً إلى اليوم، وفي المحصلة هذه الميليشيات أخذت مكان الدولة وشكلت جيوشاً مرادفة لا يقوى الجيش على مواجهتها، وهي في النهاية تعكس واقعاً مريراً يسهم في تفتيت مركزية الدولة وقرارها بحيث تخلق دويلات داخل الدولة.
الميليشيات، مفهوم لا يستوي مع مفاهيم المؤسسات العسكرية سواء من حيث التراتبية، أو من حيث نوعية التعليم العسكري والثقافة والبيئة التي تنشأ فيها، وقد تختلف الولادة بين بلد وآخر، واختلافها أيضا يعود إلى منشئها، هل جاءت نتيجة حروب أهلية أم بسبب انقسامات عرقية أم بقرار من الدولة نفسها كما هي الحال مع روسيا وأميركا بدرجة أقل؟
لا خيار أمام هذه الدولة للتعايش مع الميليشيات أيا كانت مسمياتها، إلا بالاندماج الكامل وإعادة تأهيل عناصرها وإدخالهم في جسم المؤسسات العسكرية النظامية، وإلا سنشهد «فاغنرات» قادمة لا محالة...
برغوجين أو «بروفيغين»، قائد مجموعة «فاغنر» محسوب على الرئيس بوتين شخصياً، بل يكاد المحللون المختصون يجزمون بأنه صنيعته، فالطباخ مؤتمن على كل شيء، إنما لعبة الكراسي داخل النظام لم تسر كما يشتهي اللاعب الأكبر، فمراكز القوى موزعة على الرئاسة والمخابرات والجيش، وهذا الأخير، أي وزير الدفاع على خلاف مع قائد «فاغنر» منذ معارك دير الزور في سورية عندما حاولت تحرير آبار النفط في تلك المنطقة!
يقولون كيف لدولة عظمى الاعتماد على ميليشيا لتحقيق أهداف سياسية وأخرى عسكرية؟ لكن ما يحدث على الأرض عكس ما يدعون.
يا سادة، كفى تنظيراً وفلسفة فارغة، ساعة مؤامرة! ساعة من تدبير بوتين! ساعة انقلاب من الغرب! ساعة صراع قوى! وإلى ما هنالك من تفسيرات وتحليلات.
جملة مفيدة «خبز خبزتيه يالرفله كليه» مثل كويتي يلخص واقع الحال.