يأتي صوت المؤذن هادئاً جميلا وكأنه يدعو للتأمل، فيتوقف عازفو فرقة «عود بلا حدود» دون أن يكون في ذلك، وما كانوا يعزفون تناقضا أو بعدا عن ذاك الخشوع في بحر الجمال الروحي، ويبقى الحضور في حديقة بيت «فارس ولوسيا» داخل السور القديم في مدينة جبيل المسترخية في حضن المتوسط على مقربة من مرفأ جبيل بقواربه الصغيرة المزينة بروح أهل المدينة التي لا تمل من إبهار زوارها بجمال روحي يندر أن تحافظ عليه مدينة صغيرة في ذاك الركن من شمال لبنان.
للمكان والفرقة العازفة قصة أو ربما قصص في جمال ذاك المساء من ليل جبيل بين جدرانه وأسواره القديمة جارة البحر، تقدم نجوى قصيفي الفرقة وترحب بأصدقائها القادمين من مختلف المناطق لبيتها الذي خلقت فيه، وتركه أهلها لتعود هي بعد سنين له وتحوله إلى فضاء تستضيف وتستقبل وتلتقي فيه بأصدقائها من كل بقاع الكون التي عاشت وعملت فيها، وتركت فيها أثراً من اليمن إلى أسوان والأقصر والمغرب مروراً بفلسطين، هاجسها وولعها هي وكثير من أصدقائها الذين يشبهونها التعلق بالحب والجمال.
قالت في اقتتاح الأمسية إن هذا المنزل بل هذا الحي خالٍ من كثير من شوائب الزمن التي بقيت تطارد اللبنانيين والعرب بل ربما كل البشر، فهو لم يعرف الدين الواحد أو الطائفة أو اللون أو العرق أو حتى التمييز حسب الجنس، ويبدو ذلك واضحا من جمهور ذاك المساء المترفع عن كل طفح الزمان الحاضر. جيرانها شاركوها الترحيب بالضيوف القادمين، وكأنه بيتهم هم أيضا، وكان واضحاً تنوع الحضور القادم الباحث عن مساحة في حضن الجمال والنقاء وكثير من الحب، تنثره هي وصديقاتها وأصدقاؤها.
على أنغام العزف المتنوع غير المحصور في أي إطار كما قال عازف العود سمير نصر الدين بأنه يرفض أن تنحصر آلة العود بالتقاسيم ومرافقة الغناء، وأنه قام بإدخالها في الموسيقى العصرية الشرقية منها والغربية وخلق مزيجا أكثر تلاحماً والتصاقاً من التزاوج ليمتع متذوقي الموسيقى والجمال بكل تفاصيله وأنواعه. استطاع هو ورفاقه أن يأخذوا الحضور إلى عوالم مختلفة لامست أعماقهم وأعماقهن حتى حلقوا هم مع الألحان إلى أمكنة بعيدة في النفس البشرية، وكالعادة تحركت النساء من الحضور في تناغم مع الألحان وربما في تلاحم روحي، فقامت بعضهن بالرقص، وكأنهن يقلن: هل من فضاءات أخرى؟
في تراقص الأنغام مع تغير تلاوين الشجر والسماء على بعد مسافة بسيطة من تلك القلعة والميناء الصغير، في كل ذلك شيء من لمسة من السحر قد لا تكون شبيهة بأي تلاق روحي آخر، يزيد تألق العازفين مع حضور بهذا الشكل من الالتصاق بالموسيقى وقدرتها على كسر الحواجز والجدران، يحلق الجمع بأسره في حديقة فارس ولوسيا، ويتصورون كيف كانت الحياة هنا في تلك السنوات البعيدة التي تحدثت عنها صاحبة المكان.
تمنى الكثيرون لو أنهم عاشوا معها مثل تلك السنين الحميمة في زمن ندرت فيه الحميمية والوفاء، بل عشق الجمال ومطاردته أينما كان، لا ينتهي المساء في هذا البيت المسكون بالمحبة عند توقف العود ورفاقه، بل ينتشر الحضور في أركان البيت بعضهم في سطحه، حيث البحر من خلفهم والقلعة أمامهم وكثير من الطيور والشجر وآخرون يبقون منثورين بين الشجر، وفي زوايا البيت الحجري كأنهم يحاولون أن يستمعوا لقصص طبعت بين كل حجرة وأخرى في ذاك البيت المليء بحيوات أهله رغم رحيلهم.
على طاولة تجلس مجموعة من النساء كل قدمت من زاوية، ومعظمهن كن حالمات بأوطان تشبه هذا البيت!!! هنا حضور عربي قد يكون أكثر قربا للواقع من تلك الجامعة!!! كان الجمع لا يزال محلقاً بعيدا بعيدا في فضاءات أخذتهم لها تلك المعزوفات والحضور أيضا، فالموسيقى تبادل المحب حبا والمتلقي المتذوق بمزيد من المساحات البيضاء الواسعة، تفتحه له، وتقول له إن لم تكن قادرا على الوصول لها فنحن معك لنأخذك الى ما بعد بعد اللحظة.
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.