في سوق الأسهم، عندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات الكبرى، يوجد هناك معسكران كبيران: الأول يضم المستثمرين، الذين يعتقدون أن الحدس أصدق من التحليل، بينما يضم الثاني أولئك الذين يرفضون الحدس لمصلحة عملية التحليل الدقيق للبيانات المتوفرة.

لكن ما هو «الحدس» أصلاً؟ في الحقيقة لا يوجد تعريف محدد للحدس، حيث إنه أحد أشهر المصطلحات أو الظواهر التي لا يزال تعريفها مثار جدل بين العلماء. ولكن ربما التعريف الأقرب هو ذلك الخاص بأستاذ علم النفس الألماني «تيلمان بيتش» والذي قال فيه: «الحدس هو عملية تفكير سريعة يتم خلالها معالجة المدخلات تلقائياً دون إدراك أو وعي».

Ad

وعلى الرغم من أن عملية اتخاذ القرار الاستثماري في سوق الأسهم تميل إلى أنها عملية عقلانية بحتة، فإن المستثمر في بعض الأحيان لا يمكنه أن يتخذ القرار بشكل عقلاني بحت بسبب عدم توافر بيانات ومعلومات مهمة من أجل التوصل إلى توقعات دقيقة. ومن خلال هذه الفجوة يظهر دور الحدس في سوق الأسهم.

في فبراير 2015 وقف المستثمر الأميركي الشهير «راي داليو» مؤسس صندوق «بريدج وتر» – أحد أكبر صناديق التحوط في العالم – أمام تجمع يضم مجموعة من كبار المستثمرين ليشارك معهم بعضاً من أكثر أفكاره إثارة للاهتمام، التي كوّنها خلال فترة رئاسته للصندوق الذي يدير حالياً أصولاً بقيمة 150 مليار دولار.

خلال ذلك الاجتماع نصح «داليو» المستثمرين» بضرورة تحديد وكتابة استراتيجيتهم الاستثمارية الخاصة، حتى يتسنى لهم اختبارها من آن لآخر، مشيراً إلى اعتقاده أن كل شيء يمكن تحليله وتحديده كمياً.

أما أكثر تعليقات «داليو» إثارة فهو قوله: «في 99% من الحالات أجد نفسي متفقاً مع الاستراتيجية المبنية على المعلومات والبيانات الكمية، ولكن حين أختلف معها في الـ1% المتبقية، يتضح لي لاحقاً أن الاستراتيجية كانت أصوب من حدسي الخاص في 66% من الحالات».

يعتبر «داليو» واحداً من أذكى المستثمرين الذين يعيشون بيننا الآن، ولكنه يخطئ في مرتين من بين كل ثلاث مرات يحاول خلالها اتخاذ قرار مخالف لذلك الذي تشير إليه الاستراتيجية أو النموذج الكمي المبني على المعلومات.

في عام 2012، استعرض كل من «توبياس كارلايل» و»ويز جراي» في كتابهما «القيمة الكمية» دراسة حالة مثيرة جداً للاهتمام، قاموا خلالها بالنظر في نتائج نظام لفحص الأسهم يسمى «ماجيك فورميلا» تم تطويره من المستثمر الأميركي «جول غرينبلات».

خلال الفترة ما بين عامي 2009 و2011 وفرت الشركة الخاصة بـ»غرينبلات» للعملاء خيارين أساسيين: الأول هو حساب مدار ذاتي يتحكم فيه المستثمر بشكل كامل، والثاني هو الحساب الاحترافي والذي يقوم باختيار الأسهم بشكل أوتوماتيكي وفقاً لمدخلات ومعادلة معينة يتبعها النظام.

في هذه الفترة كان أداء الحسابات المدارة من المستثمرين أضعف من أداء السوق، حيث ارتفعت بنسبة 59.4%، في حين ارتفع مؤشر ستنادرد آند بورز 500 بنسبة 62.7%. وفي المقابل تجاوزت الحسابات ذاتية الإدارة والمبنية على استراتيجية محددة السوق، محققة عائداً قدره 84.1% بعد احتساب النفقات.

الشاهد هو أن الدراسة أوضحت أن إضافة عنصر التقدير الشخصي أضر بأداء الحسابات المدارة من المستثمرين لعدة أسباب: الأول هو أن الحدس قاد المستثمرين إلى الابتعاد عن الأسهم الأفضل أداءً والتي عادة ما تكون أقل شعبية. أما الثاني فهو أن المستثمرين سارعوا بسذاجة إلى بيع الأسهم بمجرد مرورها بفترات عصيبة، وشراء تلك التي شاهدوها تحقق أداءً جيداً في تحد واضح لاستراتيجية القيمة.

البعض ربما فهم أننا نقول إن المستثمر يجب أن يتجاهل حدسه الخاص في المطلق، ولا يعتمد سوى على البيانات والمعلومات الصلبة حين يحاول اتخاذ أي قرار استثماري، غير أن هذا قطعاً غير صحيح. ليس هذا ما نقصده إطلاقاً.

لكن الفكرة هي أن أغلبنا يسيء فهم ماهية الحدس من الأساس. فكثيراً من الناس يعتقدون أن الحدس هو شيء فطري يولدون به. ولهذا من المثير للسخرية أن نرى أحياناً أناساً دخلوا السوق لتوهم يرددون عبارات من نوعية «حدسي يخبرني بكذا» أو «أنا أثق بحدسي الخاص».

غير أن الحدس في سياق الاستثمار هو نتاج خبرة الشخص على مدار السنوات التي قضاها بالمجال والتي حقق خلالها نجاحات وعانى من إخفاقات، ودقته تتناسب طردياً مع حجم ونوعية تلك الخبرة. كما أن عملية اتخاذ القرار بناء على الحدس تتعلق بقدرتك على التعرف على الأنماط والاتجاهات بسرعة.

أشارت دراسة نشرتها كلية سلوان للإدارة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في سبتمبرعام 2007 إلى أنه حين يتعلق الأمر بالقرارات المعقدة، فإنه لا يمكن لجميع البيانات الموجودة في العالم أن تتفوق على خبرة العمر التي تغذي حدس الشخص أو إحساسه الغريزي.

في تجربة أجراها أستاذ الإدارة الاستراتيجية «كورت ماتزلر» في عام 2007، تم عرض رقعة شطرنج على مجموعة من المشاركين الذين طلب منهم إعادة وضع 25 من القطع المرتبة وفق نمط معين بنفس الترتيب بعد أن أتيح لهم النظر إليها لبضع ثوان. وتمكن لاعبو الشطرنج عديمو الخبرة من إعادة 6 قطع فقط إلى مكانها الصحيح، في حين تمكن أساتذة الشطرنج من إعادة القطع الـ25 جميعاً إلى مكانها السابق.

البعض هنا قد يقول إن هذه النتيجة ما هي إلا نتاج قدرة الأساتذة غير العادية على امتصاص وتخزين المعلومات البصرية، وهو الادعاء الذي يدحضه الجزء الثاني من هذه التجربة. فعندما تم وضع القطع الـ25 بشكل عشوائي على الرقعة لم يتمكن اللاعبون المبتدئون مرة أخرى من إعادة سوى 6 قطع إلى مكانها الصحيح.

ولكن المدهش هو أن الأساتذة أيضاً لم يتمكنوا من إعادة سوى 6 قطع إلى مكانها الصحيح. كيف حدث هذا؟ باختصار هذه المرة كانت القطع مرصوصة بشكل بعيد عن التشكيلات المعروفة لطرق اللعب. فوفقاً لأحد التقديرات يستطيع اللاعب المحترف التعرف على حوالي 50 ألفاً من التشكيلات المحتملة للقطع على الرقعة، ولكن إذا تم وضع القطع بطرق لا معنى لها وفقاً لقواعد اللعبة فلن يتمكن المحترف من اكتشاف أي نمط وبالتالي لن تختلف نتائجه عن نتائج المبتدئ.

تظهر هذه التجربة أن القرار المبني على الحدس هو في الحقيقة نتاج قدرة المرء على التعرف على الأنماط بسرعة البرق في عملية تتم غالباً دون وعي منه، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بالقرارات المعقدة.

احترم حدسك الخاص، ولكن لا تتبعه بشكل أعمى وأيضاً لا ترفضه بشكل مباشر، بل استمع إليه وأعد التحقق من الأدلة والمعلومات المتاحة في ضوئه واختبر ما يخبرك به بوعي. أي ثق فيه ولكن في نفس الوقت تحقق منه.

بمناسبة النصائح السابقة، بعض المشاركين في سوق الأسهم يبحثون دائماً عن من يوجههم ويخبرهم بما يجب أن يفعلوه بالضبط خطوة بخطوة، وهؤلاء غالباً هم أولئك الذين تروق لهم مواضيع من نوعية «كيف تحول ألف ريال إلى مليون في 6 خطوات؟»

ولكن المشكلة هي أن تلك العقلية لا تناسب أبداً سوقا مثل سوق الأسهم، ربما تناسب مجالات مثل المطاعم أو محلات السوبر ماركت ولكن بالتأكيد ليس الأسهم. ببساطة سوق الأسهم هو سوق المليون احتمال، ولا توجد وصفة معينة للنجاح به. ولكننا كمستثمرين نحاول جاهدين معالجة وتحليل البيانات والمعلومات المتاحة لنتخذ قرارات نأمل بأن تكون موفقة. لا شيء مؤكدا.

قبل فترة نشرنا تقريرنا «فليبق كل في مكانه» وبعده تقرير «لا تجلس تراقب أموالك تضيع أمام ناظريك». وفي هذين التقريرين تحدثنا حول كيفية تعامل المستثمر مع الأسهم الخاسرة، ولكن لسبب ما رأى البعض أن الموضوعين متناقضان أو متضاربان، وكان لسان حال البعض: «نتمسك بالسهم الخاسر كما نصحنا التقرير الأول أم نتخلى عنه كما أشار الثاني.»

وفي الحقيقة إن سبب هذا اللبس هو تجاهل البعض لسياق ومحددات كل تقرير. ولكن باختصار سنوضح الفكرة بشكل سريع هنا: أشار التقرير الأول إلى أنه من الأفضل عدم التخلي عن السهم الخاسر بسبب التقلبات المؤقتة للسوق ما دامت أساسيته صلبة. أما التقرير الثاني فأوضح أنه من عدم الحكمة أن يتمسك المستثمر بسهم تشير كل المؤشرات إلى كونه سهماً فاشلاً ويجلس بجانبه ينتظر انتعاشاً لن يأت غالباً.