الحقيقة الضائعة بين شكوك التاريخ وزيف الواقع

نشر في 28-06-2023
آخر تحديث 27-06-2023 | 18:21
 د. بلال عقل الصنديد

يتشكل تاريخ البشرية من مجموعة الأحداث والتجارب التي يشهدها تطور المجتمعات والشعوب والدول على مر العصور، في حين أن النظرة الى مصداقية التأريخ تحكمها مقولتان صارتا ثابتتين في الوجدان العالمي: واحدة تنسب إلى نابليون بونابرت الذي شددّ على أن «التاريخ يكتبه الأبطال»، وأخرى تنسب إلى الفيلسوف الألماني جورج هيغل المقتنع بأن «الأحداث والشخصيات التاريخية تتكرر مرتين، أول مرة على هيئة مأساة والثانية على هيئة مهزلة».

تنطلق المقولة الأولى من فكرة أن النظرة التي يعكسها التاريخ يتم تشكيلها من خلال وجهة نظر الفائزين في النزاعات والصراعات، حيث يتم تبرير أعمالهم وتزيين صورهم مهما كانت تصرفاتهم سلبية أو سلوكهم وحشياً أو قناعاتهم مستنكرة، في حين يتم تجاهل أو إقصاء أعمال الخاسرين المهمشين، مهما كانت حقيقتهم شريفة وناصعة ومطالبهم محقّة وسديدة.

فالمشككون في السرديات التاريخية التي تقود الرأي العام وتتحكم في توجهات وسياسات بعض الدول والمنظمات المهيمنة، يعتبرون أنه منذ العصور القديمة الى الآن يتم تجسيد المنتصرين على أنهم قادة ملهمون وشخصيات منزّهة، فتنظم الحملات لتعظيم أمجادهم والترويج لبطولاتهم- التي قد يكون جزءاً كبيراً منها وليد الخيال- ولتخليد استماتتهم المزعومة في المدافعة عن مصالح الشعب ورفعة الأمة ونصرة الدين! في حين أن كل ذلك- في حال كان فيه جانب من الصحّة- يكون قد تحقق على حساب أعداد هائلة من الأرواح المسفوكة والدماء المراقة في محيط من المعاناة والألم والاضطهاد والظلم، وهنا يظهر تواطؤ الرواية التاريخية مع سطوتي السلطة والمال.

غالباً ما يمارس المنتصرون والمحيطون بهم ضغوطاً هائلة ومتنوعة للتأثير في الطريقة التي يتم فيها تقديم الأحداث التاريخية، فيستفيدون من الفرصة ويجندون كل الإمكانات لفرض مصطلحات النقاش وتحديد التوجهات التي تنحو عادة باتجاه تصوير خصومهم المهزومين بشكل غير مشرف. الأمر الذي قد يهز من ثباته مجموع التحركات والثورات والنضالات التي يقودها المهمشون الذين يقررون في لحظة معينة كسر حواجز الخوف والصمت من أجل تغيير الواقع ومراجعة السرديات المهيمنة، وإظهار آفاق تاريخية كانت مهملة لسنوات وربما لعقود وقرون.

من جانب آخر، تنطبق مقولة أن التاريخ يعيد نفسه على العديد من الحالات والأحداث التاريخية، بحيث من الممكن أن نجد أنماطاً ومشابهات تتكرر عبر العصور، بغض النظر عن هوية الفائزين والخاسرين فيها، فكثير من الصراعات الدينية والعرقية والاجتماعية تتكرر بطرق مختلفة على مر الزمان، وذلك رغم كل التطور الذي شهده الوعي البشري على كل المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتكنولوجية وعلى مستوى الرفاهية التي يتناقض وجودها غالباً مع المحركات التقليدية للنزاعات والحروب.

ومن الشواهد- القديمة والحديثة- التي تلقي الضوء على هامش الالتقاء والاشتباك بين المقولتين، يمكننا التمعن في تجربة الإمبراطورية الرومانية التي يتعارف تاريخياً أنها شهدت مجداً من الانتصارات وسلسلة من الفتوحات مما انعكس بتأثير إيجابي على كل مظاهر الازدهار الثقافي والاقتصادي والاجتماعي الذي عرفه الشعب الروماني آنذاك، الأمر الذي تتطابق النظرة إليه فيما يخص إنجازات الحضارة الإنسانية المعاصرة بما تحتويه، وبما أنتجته من تقدم علمي وارتفاع في مستوى الخدمات والرفاهية على كل المستويات، وفي كلا الحالتين، ورغم أن التاريخ أعاد نفسه بطريقة معينة، تجاهلت الصورة النمطية المطبوعة في أذهان العموم عن الحضارات القديمة والحديثة كثيراً من الحقائق المخفية عن معاناة كثير من الطبقات الاجتماعية وتهميش عديد من الحضارات والأمم والشعوب التي شهدت أهوال التوسع العسكري وقاست الهيمنة بجميع انواعها الحضارية أو الاجتماعية أو الاقتصادية.

ومع تطور الزمن وظهور وسائل الاتصال والإعلام، أصبحت المعلومات التاريخية والأحداث المعاصرة أكثر انتشاراً وتوافراً للجمهور، فتغيرت- تبعاً لذلك- طرق كتابة التاريخ وتوثيقه، وباتت تعكس وجهات نظر متنوعة وآراء مختلفة، إلا أن ذلك يترافق ويتناقض مع تحكم وسائل التواصل الاجتماعي، وما تنتجه من شائعات وتنشره من أخبار مكذوبة، بأدق تفاصيل حياتنا، ومن هنا يأتي الخوف- وربما تتجلى الحقيقة- فيما يخص تشكيل قناعاتنا على أسس واهية وأكاذيب مقصودة وشائعات لا تمت الى الواقع بصلة.

ثبت في التاريخ وتأكد في الواقع المعيش أن كثيراً من الأشخاص يستخدمون وسائل التأثير الرائجة لتحقيق مكاسب شخصية أو للتلاعب بالآخرين من أجل أهداف سياسية أو انتخابية أو مصالح مادية واجتماعية.

وعلى هذا النهج قامت استراتيجية الدعاية والترويج التي اعتمدها «جوبلز»- المسؤول الأول عن الترويج للأيديولوجية النازية- على قناعة منه محورها أنه إذا كررت كذبة ما بشكل كافٍ، فسيصدقها الناس في النهاية. وفي السياق نفسه أيضاً، يتأثر العالم المعاصر سلباً بكثير من الأكاذيب والوسائل الدعائية التي يستخدمها بعض الإعلام بنوعيه التقليدي والإلكتروني.

منطلق تصديق البشر لما يصلهم بسهولة وتكرار أنهم يرون فيه ما يرغبون في رؤيته أو لأنهم يفتقدون القدرة على تمييز الحق من الباطل، وقد تؤثر في ذلك عوامل كثيرة مثل الثقة العمياء، أو الإعجاب بالشخص المؤثر، أو حتى التعاطف والرغبة في مساعدة الآخرين.

***

من الخطأ والحال كذلك، أن نرفض التاريخ وأن ننحي جانباً دروسه التي تعتبر مصدراً للحكمة ومنطلقاً لتشكيل مستقبل أفضل وأكثر تصالحاً مع الذات والواقع، بل يتعين علينا- من أجل الحق والحقيقة- أن نكون أكثر حذراً في فهم وتفسير ما كتب في صفحاته وما روى في سردياته، الأمر الذي يقتضي اتباع نهج القراءة النقدية التي ترينا الأشياء من زوايا مختلفة وتسمعنا الأصوات على تنوعها واختلافها، فتكون النتيجة الحتمية حقيقة أقرب الى الواقع وفهماً بعيداً عن الانحياز.

فلا بد يوماً أن «يصحّ الصحيح» على قناعة بأن الكذب والتلاعب يتناقضان مع شروط الاستدامة والأخلاق، ولن يتمكنا- مهما طال الزمن أو كثرت المحاولات- من تزوير التاريخ أو تغيير الواقع. ففسلطين لم تصبح إسرائيل يوماً ولن تصبح كذلك في الوجدان العربي، والإسلام لم يصبح دين إرهاب مهما حاول بعض المؤثرين الترويج له، وتثبيت صورة قاتمة عنه في الأذهان والوجدان.

* كاتب ومستشار قانوني.

back to top