تواصل إسرائيل سياستها الثابتة تجاه الفلسطينيين الذين اعتبرتهم غولدا مائير شعباً غير موجود، فلم تغير إسرائيل شيئاً في نهجها منذ احتلالها الضفة الغربية وغزة والجولان مهما اختلفت الحكومات وتعاقبت تركيباتها، كما لم تجعل القرارات الدولية والمبادرات العديدة تل أبيب تخرج لحظة عن خطتها الأساس القائمة على توسيع الاستيطان والقضم والضم، فلقد نسفت «اتفاقات أوسلو» وجعلت من حل الدولتين لازمة تتردد في البيانات الرسمية الدولية من دون معنى، واعتبرت أن على الفلسطينيين أن يرضوا أو يغادروا، وأن يتخلوا عن منازلهم وأراضيهم ويهدوها للمستوطنين الذين فاق عددهم نصف مليون يهودي في الضفة وحدها، وهي الأرض التي ينبغي أن تكون لدى تحقيق السلام جزءاً من الدولة الفلسطينية المستقلة.
موجة الحقد على الفلسطينيين تصاعدت مع تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو الجديدة التي صنفت الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، فسلوكها يؤكد ذلك، لكن مقياس اليمينية لا يستقيم مع تاريخ إسرائيل في التعامل مع الشعب الفلسطيني، إذ إن لكل حكومة خصائصها، وجميعها يلتقي على قاعدة الهيمنة والاحتلال وإقامة الدولة اليهودية الصافية، أما الآخرون فمجرد إرهابيين ينبغي استئصالهم.
وفي سياق هذا المنطق لم تعن الانتفاضات المتلاحقة والاحتجاجات، بما فيها تلك المسلحة، شيئاً للقيادة الإسرائيلية، ولم تطرح هذه القيادة على نفسها السؤال البدهي «لماذا التصعيد في الأراضي الفلسطينية وإلى متى سيستمر الاحتلال؟».
وبدلاً من ذلك استغرقت في تفسير أسباب «الإرهاب الفلسطيني» وكأن الذين يحتجون ويعارضون ويموتون في جنين ونابلس جاؤوا من كوكب آخر، ودليل ذلك ما نشر الأسبوع الماضي عن مداولات داخل القيادات الأمنية حول التصعيد في الضفة، إذ خلصت تلك المداولات، كما تقول صحيفة «يديعوت»، إلى تحديد أربعة تطورات تشرح الإرهاب وتواصله.
الأول الكمية الهائلة من السلاح التي هربت خلال الأعوام الأخيرة من الأردن، والثاني جيل شاب يتصدر الأمر وليس له أمل في المستقبل، والثالث انعدام الحوكمة في الأيام الأخيرة لحكم أبو مازن بانتظار الصراع على الخلافة، مما يترك السيطرة في مخيمات اللاجئين والمدن لمصيرها، في حين يكمن التطور الرابع في المال الذي مصدره «حماس» و«الجهاد الإسلامي» وإيران.
لا مكان في هذا التحليل لسبب المواجهة الأصلي، ولا إشارة إلى الاحتلال الأخير والفريد من نوعه في العالم الذي يستمر في نهاية الربع الأول من القرن الـحادي والعشرين.
لا يعترف الإسرائيليون ولا يريدون الاعتراف بأن استمرار احتلالهم هو سبب المواجهات المتصاعدة التي يمكن في لحظة ما أن تشمل مختلف أنحاء فلسطين التاريخية، وأن الاستيطان هو وقود هذه المواجهات، بل يذهبون بدلاً من ذلك إلى تحليل تاريخي ديموغرافي بعد التحليل التقني ذي النقاط الأربع، فعن السؤال «لماذا تتحول جنين إلى نقطة صدام متفجرة؟» يأتي الجواب عبر موقع (N12) بأن هناك أسباباً عدة وراء تحول جنين إلى رأس حربة في التوتر الأمني خلال الأعوام الماضية، الرواية القديمة التي تفيد بأن شمال الضفة هو مركز تمرد ضد السلطات الحاكمة بدءاً من نابليون الذي أحرق المدينة، ومروراً بالبريطانيين الذين قاتلوا خلايا عز الدين القسام في ثلاثينيات القرن الماضي، ووصولاً إلى السلطات الأردنية.
وجنين تحب التمرد، فهذا في «جيناتها» على رؤية التحليل الإسرائيلي، ولو كان المتمرد عليها نابليون أو تشرشل أو الملك حسين أو نتنياهو، فالمشكلة رغبة القوم في المواجهات لا في الاحتلال الذي يقطع الأنفاس.
ولا تستقيم النظرة الإسرائيلية ولا تجد من يبررها في كل بقاع الأرض، فالولايات المتحدة التي تبنت حل الدولتين وأسهمت في قيام اللجنة الرباعية عام 2002 ترفض الاستيطان، وهي عملت طوال الأشهر الماضية من أجل التهدئة، ولم تستقبل نتنياهو بعد أكثر من نصف عام على توليه منصبه، اعتراضاً على سياساته الداخلية وانتقاداته لإدارة الرئيس بايدن.
وكتعبير عن رفضها فلتان المستوطنين أوفدت الإدارة الأميركية سفيرها توم نيدس الذي طالب بوقف عنف هؤلاء بعد هجماتهم الوحشية خلال الأيام الماضية على القرى والسكان العرب، وجال وفد الاتحاد الأوروبي على تلك الأماكن، وقال ممثله إن الهجوم على بلدة ترمسعيا الفلسطينية هو «اعتداء إرهابي»، معلناً بصوت عال «هذه الأرض محتلة وليست تابعة لأي جهة بغض النظر عن تصنيف المناطق (أ) و(ب) و(ج)، وإسرائيل ملزمة أن تمنع أي اعتداء ينفذه المستوطنون».
بدوره رفع المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان فولدر تورك نبرته حاسماً «من أجل إنهاء العنف يجب أن ينتهي الاحتلال».
إذاً العالم يعترف وإسرائيل لا تعترف، ولكي ينتهي الاحتلال يجب أن ينفذ العالم ما قرره في الأمم المتحدة والمواثيق ذات الصلة، وأن تكف الولايات المتحدة عن رعايتها العمياء لمصالح إسرائيل، وأن يعاد الاعتبار إلى مشروع الدولتين استناداً إلى قرارات مجلس الأمن والمبادرة العربية للسلام، لكن ذلك يبدو بعيد المنال في ظل ظروف الانقسام الدولي الراهنة، فاللجنة الرباعية التي تضم أميركا وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة أصيبت بالشلل منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، ومعها شُلت أجهزة الأمم المتحدة، مما يترك الساحة الفلسطينية مفتوحة أمام مزيد من التصعيد الذي تستدرجه القيادة الإسرائيلية ومستوطنيها.
ولم يجد وزير الأمن ورئيس حزب «العظمة الصهيونية»، إيتمار بن غفير، رداً على الانتقادات والتحذيرات الأممية أفضل من دعوة المستوطنين إلى «احتلال تلال الضفة»، وهذا بحد ذاته شرارة حرب 100عام جديدة يدفع ثمنها أبناء الأرض المقدسة ومن ينوي طردهم منها.
*طوني فرنسيس إعلامي وكاتب ومحلل سياسي لبناني.