تراجع نسبي للشغب وماكرون «يوازن» الحل الأمني
• صدمة في فرنسا بعد إحراق منزل رئيس بلدية... و«أزمة نائل» تهدد الأولمبياد
تراجعت حدة أعمال الشغب في أنحاء فرنسا نسبياً بعد نشر عشرات الآلاف من أفراد الشرطة في العاصمة باريس والمدن الكبرى، في وقت تمسك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وحكومته بـ «الحل الأمني»، دون الوصول حتى الآن، إلى حد فرض حال الطوارئ في مواجهة ثالث أكبر الأزمات في عهده مع اشتعال المدن الكبرى بتظاهرات مستمرة نتيجة مقتل الفتى نائل المتحدر من الجزائر والبالغ 17 عاماً برصاص الشرطة الثلاثاء الماضي.
وشددت رئيسة الوزراء إليزابيث بورن، أمس، على أن العنف لن يمر، وأن الدولة تعمل بقوة لاستعادة النظام وتطبيق أقصى درجات الحزم في العقوبات، وذلك تحت ضغط اليمين واليمين المتطرف الذي يتهم ماكرون بالضعف ويطالبه بمزيد من الحزم لاستعادة النظام.
ورغم تأكيد وزير الداخلية جيرالد دارمانان على عدم الإبلاغ عن حوادث كبرى في مرسيليا وليون، عاشت فرنسا صدمة بعدما اقتحم محتجون منزل رئيس بلدية لاي لو روز فنسان جانبران بسيارة أثناء وجود زوجته وولديه، وأضرموا النيران فيه.
وألقت الاحتجاجات الكبيرة الضوء على وضع ماكرون في ولايته الثانية، الذي لم يكد يخرج من أزمة «السترات الصفراء» التي أصابت فرنسا بالشلل في أواخر عام 2018، وأزمة نظام التقاعد، حتى وجد نفسه أمام تحدٍّ أشدّ خطورة مفتوح على احتمالات عديدة.
وكان ماكرون أمهل نفسه مئة يوم حتى 14 الجاري من أجل «تهدئة» البلد ووضع رئاسته على السكة مجدداً بعد أزمة التقاعد، وهو ما بدا في طور إتمامه قبل أن يجد نفسه في مواجهة «أزمة نائل».
ويبدو التعارض صارخاً بين مشاهد بلديات ومدارس وحافلات ترامواي تحترق وصور ماكرون قبل ذلك بيومين يحيّي الحشود ويخالطها في الأحياء «الحساسة» بمدينة مرسيليا في جنوب فرنسا.
ورأى الخبير السياسي برونو كوتريس «أنه نبأ سيئ جداً لرئيس الدولة واستراتيجيته القاضية بترك أجندة الحكومة تنساب نحو 14 الجاري، والمراهنة على هدوء أغسطس وإجراء تعديل وزاري لإغلاق مرحلة» نظام التقاعد. ويجد ماكرون نفسه بين مطرقة اليمين المتشدد الذي يتحدث عن بداية حرب أهلية عرقية، في إشارة إلى أن أغلبية المشاركين في الاحتجاجات يتحدرون من أصول مهاجرة، وبين اليسار الراديكالي الذي يساهم في تنظيم وتأطير الاحتجاجات ويرفض زعيمه جان لوك ميلونشون الدعوة إلى الهدوء، مطالباً بدلاً من ذلك بالعدالة.
وشدد الأستاذ الجامعي جان غاريغ خبير التاريخ السياسي على أنه «سيُحكم على ماكرون بناء على قدرته على إخماد التوتر. الخطر بالنسبة إليه هو أن يبدو ضعيفاً ويفتقد إلى التصميم».
وقبل عام من دورة الألعاب الأولمبية في باريس، حذر كوتريس بأنه «لا يمكن لأي قيادي أن يجازف باشتعال الوضع مجدداً بعد بضعة أشهر». لكن جان غاريغ لفت إلى أنه كما حدث مع الرئيس جاك شيراك ووزير داخليته نيكولا ساركوزي خلال أزمة أعمال الشغب في الضواحي عام 2005، فإن «اعتماد سياسة حزم قد ينعكس إيجاباً على ماكرون».
على صعيد آخر، حملت أعمال الشغب في المدن ماكرون على تأجيل زيارة دولة كان يعتزم القيام بها إلى ألمانيا في وقت عبّر المستشار الألماني أولاف شولتس عن قلقه مما يجري في فرنسا.
وفي تفاصيل الخبر:
رغم استمرار التوتر في وسط باريس، والاشتباكات المتفرقة في مرسيليا ونيس وستراسبورغ وليون، سجلت أعمال الشغب في فرنسا تراجعاً نسبياً بعد تشييع الشاب نائل (17 عاما)، الذي أطلق مقتله على يد الشرطة، الثلاثاء، شرارة أعمال عنف شملت مختلف الأنحاء، وامتدت إلى دول مجاورة مثل بلجيكا وسويسرا.
وفي مؤشر إلى مدى خطورة الأزمة، أعلنت الرئاسة الفرنسية أن تقييماً للوضع تم مساء أمس بحضور الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي وجد نفسه أمام أزمة داخلية كبرى ثالثة في غضون أشهر قليلة بعد الاحتجاجات الواسعة على مشروعه لإصلاح قانون التقاعد، واحتجاجات «السترات الصفراء» التي أصابت فرنسا بالشلل في أواخر عام 2018.
وبعد 5 أيام من أعمال الشغب والنهب، شددت رئيسة الوزراء الفرنسية، إليزابيث بورن، أمس، على أن العنف لن يمر، وأن الدولة تعمل بقوة لاستعادة النظام، مشيرة إلى «وقائع لا يمكن التسامح معها»، مثل الهجمات على رؤساء البلديات ومسؤولين منتخبين في فرنسا.
بدورها، أوضحت وزارة الداخلية الفرنسية، أمس، أنها لجأت لتعبئة 45 ألفاً من رجال الشرطة والدرك وآلاف من رجال الإطفاء لحماية وضمان النظام الجمهوري.
إضرام النيران
وفي حصيلة غير نهائية، أكدت «الداخلية»، صباح أمس، توقيف 719 شخصاً، وإصابة 45 عنصراً من الشرطة والدرك بجروح، وإضرام النيران في 577 عربة و74 مبنى، وتسجيل 871 حريقا على طرق.
ولجأت الوزارة لليلة الثانية على التوالي، إلى تعبئة عشرات الآلاف من قوات الشرطة والدرك، بينهم 7 آلاف في باريس وضواحيها المجاورة، إضافة إلى تعزيزات أمنية في مدن مثل مرسيليا وليون وغيرهما من الأنحاء التي تعرضت على مدى الليالي الأربع الماضية لسلسلة من الشغب والسرقة والنهب.
وفي حين تمّ الإبلاغ عن عدد محدود من الحوادث ليل السبت- الأحد في مدينتي مرسيليا وليون، الأكبر بعد العاصمة، كتب وزير الداخلية جيرالد دارمانان، في تغريدة، «ليلة أكثر هدوءً بفضل العمل الحازم لقوات حفظ الأمن».
ولاحقاً، قال رئيس بلدية لاي لو روز جنوب باريس فنسان جانبران إن «مشاغبين» اقتحموا فجراً بسيارة منزله أثناء تواجد زوجته وولديه، قبل إضرام النيران بهدف إحراقه.
وأوضح جانبران، خلال وجوده في مبنى البلدية الذي كان هدفاً لهجمات المتظاهرين على مدى عدة ليال، أن زوجته وأحد طفليهما، البالغين خمسة وسبعة أعوام، أصيبا أثناء فرارهم من المبنى في الساعات الأولى من الصباح، واصفاً ما جرى «محاولة اغتيال جبانة بدرجة لا توصف»، بينما كان هو موجوداً في بلدية البلدة التي يقطنها نحو 30 ألف نسمة.
وأشار مقربون من المسؤول إلى أن زوجته أصيبت بجروح في ركبتها، بينما تعرض أحد ولديه لإصابة طفيفة.
هدوء نسبي
وسعياً لضبط أعمال العنف، قامت السلطات بمنع المظاهرات، وفرضت حظر تجول في المساء، وأمرت بوقف حركة النقل العام بحلول الساعة التاسعة. وصدر مرسوم يوم السبت يمنح شرطة باريس الحق في نشر طائرات مسيرة في بعض الضواحي.
وقال مفوض شرطة باريس لوران نونييز: «لا نطلق صيحة النصر، ضباطنا انتشروا على طول الشانزليزيه، وعرقلوا خططا لأعمال شغب، ظهرت على وسائل التواصل الاجتماعي»، مشيرا إلى أنه تم توجيه اهتمام خاص، لمراكز التسوق، التي يستهدفها «المجرمون».
وفي مرسيليا، التي شكلت ليل السبت مسرحا لحوادث كبرى وعمليات نهب، كان الوضع أكثر هدوءا من الليالي الأربع السابقة، وعمل جهاز أمني ضخم ليل السبت الأحد على تفريق مجموعات من الشباب كان عددهم أقل من اليوم السابق.
وقال متحدث باسم الشرطة: «لا نرى على الإطلاق مشاهد النهب التي وقعت بالأمس»، مشيرا إلى توقيف 56 شخصا بحلول منتصف الليل.
وفي ليون، ثالث كبرى المدن الفرنسية، نشرت قوات الأمن ناقلات جند مدرعة وطائرة هليكوبتر، كما طلب رئيس البلدية تعزيزات.
وكان عدد الذين تمّ توقيفهم في عموم فرنسا ليل الجمعة السبت تجاوز عتبة 1300 شخص مقابل 875 في الليلة السابقة، وهو رقم قياسي منذ اندلاع موجة أعمال الشغب الراهنة الثلاثاء.
وقضى نائل برصاصة في الصدر أطلقها شرطي من مسافة قريبة في أثناء عملية تدقيق مروري في ضاحية نانتير غرب باريس. ووُجهت إلى الشرطي الموقوف البالغ 38 عاما تهمة القتل العمد.
وشارك المئات في مراسم التشييع السبت من مسجد ابن باديس إلى مقبرة مونت فاليريان في ضاحية نانتير الباريسية، علما بأن العائلة طلبت عدم حضور الصحافيين لتغطية مراسم الوداع.
وانتهى التشييع قرابة الساعة الخامسة والنصف بعد الظهر في «هدوء شديد، في خشوع وبدون تجاوزات». وأعاد الحادث فتح النقاش بشأن تعامل الشرطة مع حالات مماثلة. وقتل 13 شخصا فرنسا عام 2022 بعد رفضهم الامتثال لعمليات تدقيق مرورية.
تحركات ماكرون
ومع طرح جزء من الأوساط السياسية مسألة فرض حال الطوارئ في ظل تمدد أعمال العنف، ألغى الرئيس إيمانويل ماكرون زيارة دولة الى ألمانيا كان من المقرر أن تبدأ اليومين وتستمر ليومين، بعدما اختصر أيضا مشاركته في قمة للاتحاد الأوروبي استضافتها بروكسل الجمعة، كما دفعت تلك الأزمة العاهل البريطاني الملك تشارلز الثالث الى إلغاء زيارة لفرنسا في مارس.
وأجرى الرئيس الفرنسي اتصالات هاتفية مع عدد من رؤساء البلديات الفرنسية القلقين من اتساع دائرة أعمال العنف.
وتلقى مسألة فرض فرنسا حال الطوارئ، التي تسمح فرض للسلطات الإدارية باتخاذ إجراءات استثنائية مثل منع التجول، متابعة حثيثة في الخارج، خصوصا أنها تستضيف في الخريف كأس العالم للركبي، ومن ثم دورة الألعاب الأولمبية الصيفية في باريس في 2024.
تمدد الغضب
وقامت دول عدة بتحديث نصائح سفر رعاياها الى فرنسا، ودعتهم الى تجنب زيارة المناطق التي تشهد أعمال شغب، كما دعت القنصلية الصينية في مرسيليا رعاياها الى «اليقظة والحذر»، بعد تقارير عن تعرّض حافلة تقل سائحين صينيين للرشق بالحجارة الخميس.
وأعادت الموجة الحالية من أعمال الشغب التذكير بسلسلة مشابهة هزت فرنسا في العام 2015 بعد مقتل مراهقين صعقا بمحوّل كهربائي أثناء محاولتهما الهرب من الشرطة.
وأفاد مصدر بالشرطة بأن مذكرة للاستخبارات حذرت من أن العنف قد يصبح «معمماً» في فرنسا خلال الليالي المقبلة، ويتسم بأعمال «تستهدف الشرطة ورموز الدولة».
وتسبب مقتل الشاب نائل بصدمة في فرنسا وصل صداها إلى الجزائر، التي تتحدر منها عائلته، قبل أن ينتقل إلى مدينة لوزان في سويسر، وكذلك بالعاصمة البلجيكية بروكسل، حيث اندلعت مشاجرات مع الشرطة وتم تحطيم عدد من المتاجر.
وفي تكرار لأعمال الشغب الفرنسية، تجمع شبان وسط بروكسل واشتبكوا مع شرطة العاصمة البلجيكية، كما احتشد أكثر من 100 شاب في لوزان بالقرب من حدود فرنسا وقاموا بقذف الشرطة بالحجارة وبزجاجة حارقة واحدة على الأقل، وهاجموا المحلات التجارية قبل أن يتم اعتقال 7 منهم.
وتشير الصحف إلى أن الوضع في فرنسا المجاورة، أثار الهيجان في النفوس لدى البعض في سويسرا وبلجيكا، وانتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي الدعوات للنزول إلى الشوارع.
وصرح رئيس لجنة شؤون السياسة الخارجية بالبرلمان الألماني، ميشائل روت، بأنه يرى أن استقرار فرنسا في خطر حالياً، معتبراً أن «هذا الغضب الوحشي المدمر من جانب الشباب، الذي يبدو أنه موجه بلا هدف ضد كل شيء وأي شخص، هو تصعيد جديد وخيم يجب أن تمضي الدولة بكل إصرار ضده».
ولفت إلى أن فرنسا للأسف ليست حالة فردية، لأن حالات الانقسام والاغتراب وكذلك العنف ضد الممتلكات والأشخاص تزداد في كثير من الدول الأوروبية.
من جانبه، صرح نائب رئيس الحزب المسيحي الديمقراطي، أندرياس يونغ، أنه يرى في الانقسام المجتمعي سببا لاندلاع العنف، وقال: «على الرغم من التطور الاقتصادي الجيد، فإن فرنسا تعد دولة منقسمة بشكل عميق»، وأشار إلى أن كثيرا من الشباب الفرنسيين لديهم مخاوف من المستقبل.