دارت خلال الأسابيع الماضية في المنتديات الاجتماعية ووسائل التواصل الاجتماعي أحاديث متشعبة حول المشروع الحكومي المعروف بـ«البديل الاستراتيجي للرواتب» وسط غموض في الكثير من تفاصيله وأهدافه وآليات تنفيذه رغم مرور نحو 9 سنوات على بداية دراسته!

ورغم تقديم وزير المالية لمحة عامة عن المشروع في تصريحه مطلع الأسبوع الجاري من جهة التشديد على ضرورة ألا يعمق «البديل الاستراتيجي» من تدهور جاذبية العمل في القطاع الخاص أو زيادة أعباء المالية العامة أو تقويض استدامتها وهو تصريح في محله فمن المهم فهم أهداف البديل الاستراتيجي على نطاق أوسع كونه ليس فقط تحقيقاً لعدالة أخلت بها فوضى الكوادر قبل نحو 15 عاماً، بل أيضاً في كونه مشروعاً يستهدف إصلاح الجهاز الإداري في الدولة، ويضمن عوائد تنموية واقتصادية وخدمية توازي الانفاق المالي المتضخم مع اهمية عدم الانجراف لفكرة خاطئة ربما تقضي على المشروع من أساسه وهي ربط البديل الاستراتيجي برفع المستوى المعيشي للمواطنين.

Ad

فكرتان مختلفتان

شتّان ما بين الفكرتين، فالبديل الاستراتيجي يفترض أن يكون عنواناً لمشروع إصلاح في الجهاز الإداري في الدولة يتضمن ما هو أعمق من تعديل أو زيادة الرواتب من جهة ضرورة أن يشمل المشروع دمجاً للهيئات والقطاعات المتشابهة وتقليصاً للقياديين ووضع آليات متقدمة لقياس الإنتاجية والتقييم وتحفيزاً لجاذبية فرص العمل بالقطاع الخاص وتطوير بيئة الأعمال لا سيما إصلاح قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة الذي يعاني من بيئة طاردة تتعلق بالتمويل والأراضي وبيروقراطية الإجراءات، فضلاً عن ضرورة تضافر جهود جميع مؤسسات الدولة ذات الطبيعة الاقتصادية في اتخاذ قرارات من شأنها تحفيز بيئة الأعمال وجذب الاستثمارات الأجنبية بما يخلق وظائف جديدة في سوق العمل مع الأخذ بعين الاعتبار مدى أثر البديل الاستراتيجي على اشتراكات التأمينات والراتب التقاعدي وغيرها من المسائل ذات العلاقة.

تحسين المعيشة

أما تحسين المستوى المعيشي للمواطنين فمسألة تختلف تماماً عن البديل الاستراتيجي، بل إن معظم سياساته تتصف بأنها غير مالية كالحد من احتكارات الوكالات والأراضي وعمليات التأجير بالباطن لأملاك الدولة إلى جانب توطين الصناعات الاستهلاكية والغذائية والدوائية لخفض تكاليف الاستيراد والتخزين، فضلاً عن العمل على تحسين الخدمات العامة كالتعليم والصحة والسكن والتي تتحمل الأسرة الكويتية تكاليف أشبه بالضريبة بسبب سوء الخدمة مع ضرورة وجود أدوات متقدمة لقياس دخل الأسرة وأوجه الصرف وتوفير قنوات ادخار واستثمار شبه مضمونة، ناهيك عن استخدام أدوات السياسة النقدية كرفع الفائدة لكبح الطلب على السلع غير الأساسية مع الأخذ بعين الاعتبار أهمية إعادة هيكلة الدعوم وفقاً لشرائح الدخل بما يحقق الغرض الأساسي من وجود الدعوم.

أما بغير الأخذ بالمحاذير الخاصة بإصلاح الجهاز الإداري للدولة وتعمد خلط هذا الهدف المستحق بأهداف أخرى، فإن البديل الاستراتيجي سيتحول إلى أداة عكسية لمزيد من التكاليف على المالية العامة للدولة بمصروفات متنامية دون عائد إداري أو اقتصادي إلى جانب ضخ سيولة مالية إضافية لمعظم العاملين في القطاع العام دون استفادة حقيقية في المستوى المعيشي، بل سيكون في اتجاه دعم مستويات التضخم بدلاً من كبحها.

لا للمعالجة المنحرفة

بالنظر للميزانية العامة للدولة فإن الكويت تستهلك نحو 56 في المئة من ميزانيتها السنوية على بنود الرواتب والأجور، بمعدل نمو سنوي يتراوح ما بين 4 و5 في المئة، وعليه فيكون الحديث عن اقتصار البديل الاستراتيجي على جانب الرواتب والأجور هو تعميق لأزمة المالية العامة وسوق العمل، إذ يجب أن يكون بديلاً بالفعل لخيارات العمل خارج القطاع العام من جهة، واستراتيجياً حقيقياً لما يقدمه من استدامة مالية الدولة في السنوات المقبلة، خصوصاً مع توقعات دخول 24 ألف شخص سنوياً إلى سوق العمل، مما يجعل أي معالجة لا تتعلق برفع جاذبية القطاع الخاص بما فيها المشاريع الصغيرة والمتوسطة كبيئة عمل أولى مفضلة للخريجين الكوييتين هي معالجة منحرفة، ومن شأنها تعميق أزمتي المالية العامة وسوق العمل بجعلهما أكثر استفحالاً.

إنفاق وعوائد

ولعله من المفيد أن يفتح البديل الاستراتيجي مسألة تقييم الإنفاق المالي مع العائد الخدمي فوزارتا التربية والصحة تستهلكان أعلى معدل إنفاق رواتب بين موظفي الدولة، ومع ذلك فمؤشرات قطاعي التعليم العام والصحة في تراجع مستمر على مختلف مؤشرات التقييم الدولية، أما القطاع النفطي الذي يعد العمل في شركاته خياراً أول لأي خريج فقد تضاعفت فيه كلفة إنتاج البرميل خلال فترة زيادة الكوادر المالية إلى 8 دولارات للبرميل ومع ذلك فهو الأسوأ بين القطاعات النفطية الخليجية فيما يتعلق بالإخفاق في تنفيذ المشاريع الاستراتيجية داخل أو خارج الكويت وتأخرها أو إفلاسها فضلاً عن انخفاض المهنية وتفشي الشللية مما يتطلب وضع نماذج تقييم تتحدد بعدها طبيعة رواتب أي جهة أو قطاع.

وبكل الأحوال، علينا الاعتراف بأن التخريب المتعمد الذي شهده الجهاز الإداري للدولة منذ إقرار الكوادر قبل 15 عاماً قد يجعل بلوغ حل يرضي جميع الأطراف أمراً مستحيلاً، لكن هذا يجب ألا يكون مانعاً أمام استحقاق تطبيق البديل الاستراتيجي على الموظفين الجدد وفق تاريخ معين فنكون بعد سنوات قادمة من التطبيق أمام نظام إداري ووظيفي جديد وعادل ومنطقي، وهو ما يتطلب بكل تأكيد تمسك الحكومة بالعناصر والمبادئ الفنية التي قدم وزير المالية لمحة موجزة عنها ودون المساومة عليها ضمن صفقات شعبوية أو سياسية.