يتواصل نمو الاقتصاد الأميركي مع انتهاء النصف الأول من 2023، رغم التوقعات التي كانت تشير قبل بداية العام إلى أن الركود أمر محسوم.

ورغم الاضطرابات المصرفية واستمرار قوة التضخم ورفع معدلات الفائدة، لايزال أكبر اقتصاد بالعالم قادراً على النمو وسط سوق عمل نشط بشكل مفاجئ للمتابعين.

Ad

ما الركود؟

التعريف المعتاد للركود الاقتصادي يتمثل بانكماش الناتج المحلي الإجمالي للدولة مدة ربعين متتاليين.

لكن الولايات المتحدة لديها رؤية مختلفة للركود، حيث يُعرف المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية الركود، بأنه «انخفاض كبير بالنشاط الاقتصادي ينتشر بجميع أنحاء الاقتصاد، ويستمر أكثر من بضعة أشهر».

وينظر المكتب في العديد من المؤشرات لتحديد ما إذا كان الاقتصاد بحالة ركود من عدمه، ما يشمل التوظيف وإنفاق المستهلكين ومبيعات التجزئة والإنتاج الصناعي.

ورغم أن الناتج المحلي الإجمالي الأميركي انكمش في أول ربعين من 2022، فإن مكتب البحوث الاقتصادية لم يعلن ركود الاقتصاد، إذ إن الانكماش حدث بسبب تغيرات في التجارة ومخزونات الأعمال، وهي فئات لا تعكس الوضع الأساسي للاقتصاد.

التشاؤم سيد الموقف

دخل الاقتصاد الأميركي عام 2023 بتوقعات كبيرة تشير إلى احتمالات الركود، مع استمرار رفع معدلات الفائدة والتضخم القوي الذي قد يؤثر سلباً على إنفاق المستهلكين.

وتصاعدت النبرة المتشائمة بشأن الركود الأميركي مع رفع الاحتياطي الفدرالي معدلات الفائدة من مستوى قرب الصفر في مارس 2022 إلى نطاق 5 و5.25 في المئة حالياً.

وفي أكتوبر 2022، أظهر نموذج توقعات لـ «بلومبرغ إيكونومكس» أن احتمالية ركود الاقتصاد الأميركي في عام 2023 تبلغ 100 في المئة، بسبب التضخم القوي والتشديد النقدي المتواصل من جانب الاحتياطي الفدرالي.

كما كشف مسح أجرته صحيفة وول ستريت جورنال في نهاية العام الماضي، أن الاقتصاديين يرون احتمالية 63 في المئة لركود الاقتصاد الأميركي في 2023.

وفي يناير الماضي، حدد «غولدمان ساكس» احتمالية تتراوح بين 45 و55 في المئة لركود اقتصاد الولايات المتحدة.

وفيما يتعلق بالمديرين التنفيذيين، توقع جيمي ديمون، الرئيس التنفيذي لبنك جيه بي مورغان، في أكتوبر الماضي دخول الاقتصاد الأميركي حالة ركود بحلول منتصف 2023.

الواقع يخالف التوقعات

لكن رغم كل الآراء التي كانت تتوقع حتمية ركود الاقتصاد الأميركي هذا العام، لا تزال البيانات الرسمية تشير إلى تماسك واضح في أكبر اقتصاد بالعالم.

وكشفت أحدث البيانات أن الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة نما بوتيرة سنوية 2 في المئة خلال الربع الأول من 2023، ما يعتبر أفضل من القراءة الثانية التي كانت تشير لنمو 1.3 في المئة، لكنه أقل من المسجل في الربع الرابع من العام الماضي عند 2.6 في المئة.

وجاء رفع تقديرات النمو الاقتصادي في الربع الأول من هذا العام بدعم مراجعة بالرفع للصادرات وإنفاق المستهلكين.

كما رفع مجلس الاحتياطي الفدرالي بعد اجتماع يونيو الماضي توقعاته لنمو الاقتصاد الأميركي إلى 1 في المئة بالعام الحالي، مقابل توقعاته الصادرة في مارس بنمو 0.4 في المئة فحسب.

وقلص الفدرالي توقعاته لمعدل البطالة في العامين الحالي والمقبل من 4.5 و4.6 في المئة سابقاً إلى 4.1 و4.5 في المئة على الترتيب.

وخفض «غولدمان ساكس» توقعاته لاحتمالية ركود الاقتصاد الأميركي في الاثني عشر شهراً المقبلة إلى 25 في المئة فحسب.

المستهلكون ينقذون الوضع

تبرز قوة سوق العمل في صدارة قائمة العوامل التي ساعدت الاقتصاد الأميركي على إظهار التماسك المفاجئ منذ بداية العام الحالي.

وأضاف الاقتصاد الأميركي في مايو الماضي 339 ألف وظيفة، في أداء جاء متفوقاً على كل التوقعات بهامش كبير.

وعقَّب مارك زاندي، كبير الاقتصاديين في «موديز أنالاتيكس»، على بيانات الوظائف الأميركية في مايو بقوله: «الاقتصاد قوي بشكل لا يصدق، رغم الأزمة المصرفية ورفع الفائدة وأزمة سقف الدين، من الصعب أن نرى ركوداً هذا العام بالنظر لهذه البيانات».

وساعد في إبقاء المستهلكين في وضع جيد قوة سوق العمل، والمدخرات المتراكمة إبان فترة ذروة وباء «كورونا»، والتي بلغت 2.5 تريليون دولار.

ورغم تقديرات «موديز» بأن هذه المدخرات تراجعت إلى 1.5 تريليون دولار، فإنها لا تزال تدعم قدرة المستهلكين على مواصلة الإنفاق في مواجهة تسارع التضخم ومعدلات الفائدة في الأشهر الماضية.

إشارات متباينة حول المستقبل

مع نجاح الاقتصاد الأميركي في تلافي الوقوع في براثن الركود حتى الآن، فإن الأمر لا يخلو من وجود مؤشرات سلبية تثير حالة من عدم اليقين حيال المستقبل.

ورغم قوة سوق العمل الأميركي، فإن الكثير من الشركات في قطاعات التكنولوجيا والإعلام أعلنت خططاً لخفض الوظائف.

ووفق شركة تشالنجر، جراي آند كريسماس، ارتفع عدد عمليات خفض الوظائف المعلنة منذ بداية العام الحالي بمقدار 4 أضعاف مقارنة بمستويات 2022، رغم أن المؤشرات توضح أن العديد من الأشخاص الذين يتعرضون للتسريح يتم تعيينهم مجدداً بشكل سريع.

وأعلنت شركات مثل: «ميتا» وديزني» و»غولدمان ساكس» و»أمازون» وغيرها، تسريح عمالة منذ بداية العام.

وأظهر تقرير الوظائف عن مايو صعود معدل البطالة الأميركي إلى 3.7 في المئة من 3.4 في المئة بأبريل، والذي كان يمثل أدنى مستوى في 53 عاماً.

ويضاف إلى ذلك استمرار انكماش النشاط الصناعي الأميركي للشهر الثامن على التوالي، حيث أظهرت بيانات معهد الإمدادات تراجع مؤشر مديري المشتريات الصناعي إلى 46 نقطة خلال يونيو.

كما يشهد العائد على سندات الخزانة الأميركية أكبر وتيرة انعكاس في 40 عاماً، ما يشير إلى تصاعد المخاوف حيال الركود الاقتصادي، حيث إنه في ثلثي عدد المرات التي حدث فيها انعكاس لمنحنى العائد سقط الاقتصاد الأميركي في براثن الركود في غضون 18 شهراً.

الركود مؤجل فحسب؟

يشير استمرار النمو القوي للاقتصادي الأميركي إلى احتمالية متصاعدة لتشديد السياسة النقدية بشكل أكثر صرامة من جانب الاحتياطي الفدرالي.

ويرغب الفدرالي في السيطرة على التضخم من خلال إبطاء الاقتصاد، وهو ما ظهر في تصريحات رئيسه جيروم باول في البرتغال، بالإشارة إلى عدم استبعاد رفع معدلات الفائدة في اجتماعين متتاليين هذا العام، بعد تثبيتها في يونيو لأول مرة في 15 شهراً.

ويبدو الاحتياطي الفدرالي مستعداً لقبول دخول الاقتصاد في ركود محدود لاستعادة استقرار الأسعار، بالنظر إلى وجود شعور لدى أعضاء البنك المركزي بأن أدوات السياسة أكثر فاعلية في إخراج الاقتصاد من الركود منها السيطرة على التضخم.

ويُظهر المستهلكون في الولايات المتحدة إشارات على تراجع الإنفاق أخيراً، حيث نما الاستهلاك الشخصي 0.1 في المئة في مايو، بعد النمو القوي البالغ 4.2 في المئة بالربع الأول.

ويبدو النشاط الاقتصادي القوي أخيراً غير مستدام، مع ضعف نمو إنفاق المستهلكين واحتمالية ظهور الآثار المتأخرة لرفع معدلات الفائدة وتباطؤ نمو الوظائف وتراجع الائتمان المتاح بعد الاضطرابات المصرفية. وتهدد هذه العوامل بتداعيات سلبية على رغبة وقدرة الأسر الأميركية على الإنفاق، ما سيؤثر بالتبعية على الاقتصاد الأكبر في العالم.