عندما تطارد أموال كثيرة جداً سلعاً قليلة جداً نكون قد وصلنا إلى بداية التضخم، فمن الناحية التقليدية يرتبط التضخم بارتفاع أسعار السلع والخدمات خلال مدة زمنية محددة، وذلك بسبب قلة العرض وزيادة الطلب مقرونةً بزيادة المعروض النقدي، وعادةً تقوم البنوك المركزية بتطبيق سياساتها النقدية من خلال رفع نسبة الفائدة لتقليل مستويات السيولة، لكن التضخم مرض اقتصادي مزمن، ويتم تشبيهه بالسرطان، وعلاجه الكيماوي المؤلم لا يكتفي فقط برفع معدلات الفائدة من قبل البنوك المركزية للمحافظة على القوة الشرائية للعملة المحلية، بل يتطلب- علاجه الكيماوي- خطوات حكومية أشمل أكبر حتى تتمكن من السيطرة على التضخم بكل أنواعه ودرجاته، وترجعه إلى مستويات مقبولة.
من هذه الخطوات، دعم أسعار السلع الغذائية الاستراتيجية، بجانب الوقود والكهرباء والماء، وخدمات البنية التحتية من اتصالات ومواصلات وشبكة طرق سليمة وآمنة، وكسر احتكار سلع الغذاء والمواشي، ومواد البناء لأن تضخم سعر العقار السكني (بناء، شراء، إيجار) يثقل ميزانية الأسرة وبالتالي يزعزع استقرارها ويسارع في تفككها.
فتضخم الأسعار لا يرتبط فقط بسلة الغذاء والدواء والخدمات الأساسية، أو فقط بالاحتياجات الإنسانية في أسفل هرم ماسلو! فالتضخم السرطاني يهاجم مناحي الحياة كافة، لذا يجب محاربته غذائياً وخدمياً وصناعياً وعقارياً وتعليمياً واقتصادياً، حتى لا تنعكس تبعاته المدمرة على جسد الدولة وجيب المواطن وصحته.
تستطيع الحكومة أن تتغلب على التضخم من خلال فرض توازن العرض مع حجم الطلب، فإذا وضعنا خطة استراتيجية للأمن الغذائي تهدف إلى تنمية الثروة الزراعية والحيوانية لتغطية الطلب المحلي من القسائم الزراعية المنتجة عن طريق عرض منتجاتها مباشرة- من دون وسطاء- في الجمعيات التعاونية، نكون هنا قد ساهمنا في ضبط أسعار السلع الغذائية، أما بالنسبة لتضخم أسعار العقار السكني، فيمكننا وضع خطة تنشيطية يتم من خلالها تحرير وتوفير أراض للمشاريع السكنية والتجارية والاستثمارية والصناعية، وذلك من خلال فرض ضريبة على الأراضي الفضاء، ووضع سقف على دعم الماء والكهرباء لمن يملك أكثر من عقار سكني، وإنشاء بورصة عقارية، وتطوير آلية التقييم العقاري لوقف المضاربات الوهمية، وتأهيل عدد كبير من المطورين العقاريين لإنشاء مدن إسكانية وصناعية وعمالية واقتصادية ورياضية في فترات زمنية قياسية ننهي من خلالها طابور الطلبات السكنية المتراكمة (قاربت 100 ألف طلب في 2023)، ونعيد تنظيم القطاع العقاري حتى ينوّع الاقتصاد ويرفع نسبة مساهمته بالناتج المحلي القومي.
لعل من أهم خطوات السيطرة على التضخم هي توافر البيانات الأساسية، لذا علينا أن ندعم الإدارة المركزية للإحصاء ونعزز دورها في القيام بمسوحات وإحصاءات دورية للأسعار لرصد كل أنواع التضخم- الزاحف والمفرط والمتسارع والجامح- وتوفير بيانات التضخم لمتخذي القرار حتى يتم ربط تبعات ومخاطر القرارات والخطط الحكومية، والتشريعات النيابية بالتنبؤات المستقبلية للتضخم.
إن الهدف الأسمى لصانعي القرار هو استدامة رفاهية المواطن والتي ترتبط بتنمية فرص حقيقية للعمل، وتنظيم واستقرار قطاعات الدولة، وبالسيطرة على التضخم.