رحلة يفغيني بريغوجين من عالم الجريمة إلى تحدي بوتين
بعد أسابيع من الانتقادات الشديدة للقيادة العسكرية الروسية، قاد يفغيني بريغوجين تمرداً عسكريا قصيراً ضد القيادة الروسية وأمر جيشه الخاص المؤلف من المرتزقة بالاستيلاء على مواقع عسكرية رئيسة.
أثار ذلك غضب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ وصف خطوة بريغوجين بـ«الخيانة» وتعهد بمعاقبته على وجه السرعة.
لكن قبل أن تتحول المواجهة إلى أعمال عنف أوقف بريغوجين قواته ووافق على مغادرة روسيا تماماً ولا يزال الغموض يلف مكان وجوده في الوقت الحالي.
كقائد لمجموعة المرتزقة «فاغنر» كان بريغوجين لاعباً رئيساً في الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، فقد قاد مقاتلو فاغنر الهجوم الروسي على جبهات رئيسة من الحرب مثل مدينة باخموت الأوكرانية، ومع استمرار القتال بدأ بريغوجين ينتقد بشكل متزايد كبار المسؤولين العسكريين الروس بسبب اعتباره محاولاتهم الفاشلة لتحقيق أهداف ما يسمى «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا، لكن انتقاداته لم تصل الى حد إلقاء اللوم على بوتين الذي ربطته به علاقة وثيقة في الماضي، فكيف نجح رجل انطلق من خلفية غامضة في امتلاك مثل هذا النفوذ وكسب سمعة وحشية مخيفة؟ وكيف أصبح قائد تمرد داخلي في روسيا؟
من بريغوجين؟
ينحدر يفغيني بريغوجين من مدينة سانت بطرسبرغ، مسقط رأس فلاديمير بوتين، وقد أدين لأول مرة بجرم السرقة في عام 1979 حينما كان في الثامنة عشرة من العمر وحُكم عليه بالسجن لمدة عامين ونصف العام مع وقف التنفيذ، وبعد ذلك بعامين حُكم عليه بالسجن لمدة 13 عاما بتهمة السرقة والسطو وأمضى تسعة منها خلف القضبان.
عند إطلاق سراحه من السجن، أنشأ سلسلة من الأكشاك لبيع النقانق في سانت بطرسبرغ، وسارت الأعمال بشكل جيد، وفي غضون بضع سنوات في تسعينيات القرن الماضي نجح في فتح سلسلة مطاعم راقية وفاخرة في المدينة.
وخلال تلك المرحلة بدأ بريغوجين في إقامة علاقات مع كبار المتنفذين وعلية القوم في سانت بطرسبرغ أولاً وروسيا لاحقاً، وقد حمل أحد مطاعمه الشهيرة في المدينة اسم نيو آيلاند، وكانت عبارة عن سفينة تبحر في نهر نيفا، فأحب بوتين ذلك المطعم كثيرا لدرجة أنه بعد أن أصبح رئيسا بدأ باصطحاب ضيوفه الأجانب إليه، ويرجح أن العلاقة بين بريغوجين وبوتين نشأت خلال تلك المرحلة.
وقال بريغوجين في إحدى مقابلاته: «رأى فلاديمير بوتين أن لا مشكلة لدي في تقديم الأطباق لكبار الضيوف شخصيا»، «التقينا عندما جاء برفقة رئيس الوزراء الياباني موري»، فقد زار يوشيرو موري سانت بطرسبرغ في أبريل 2000، في بداية مرحلة حكم بوتين.
وثق بوتين في بريغوجين لدرجة أنه احتفل بعيد ميلاده في مطعم نيو آيلاند عام 2003، وبعد سنوات تعاقد الحكومة الروسية مع شركة كونكورد التي يمكلها بريغوجين لتزويد الكرملين بالطعام وبات يلقب بـ«طباخ بوتين»، كما فازت الشركات التابعة لبريغوجين بعقود إطعام مربحة مع الجيش والمدارس التي تديرها الدولة.
كيف بدأت مجموعة فاغنر؟
بعد الغزو الروسي لشرق أوكرانيا في عام 2014، بدأت تظهر بوادر تشير إلى أن بريغوجين ليس رجل أعمال عاديا، فقد راجت أنباء تفيد بأن شركة عسكرية خاصة غامضة قيل إنها مرتبطة به تقاتل القوات الأوكرانية في منطقة دونباس شرق أوكرانيا.
عرفت الشركة الخاصة باسم واغنر نسبة إلى الاسم السري الذي استخدمه أحد قادتها الأوائل الرئيسيين في اتصالاته، ويقال إن هذا القائد كان معجباً بألمانيا النازية التي استخدمت موسيقى الموسيقار فاغنر الألماني الذي عاش في القرن التاسع عشر لأغراض الدعاية.
ومن المفارقات أن بوتين ادعى أن «اجتثاث النازية» من أوكرانيا هو أحد الأهداف الرئيسة للغزو الروسي الشامل لأوكرانيا الذي بدأ في فبراير 2022.
عدا أوكرانيا، تنشط فاغنر في جميع أنحاء القارة الإفريقية وأنحاء مختلفة من العالم، حيث تقوم بمهام مختلفة لتعزيز موقف الكرملين وتقوية موقع روسيا مثل دعم نظام بشار الأسد في سورية إلى محاربة النفوذ الفرنسي في دولة مالي، وبمرور الوقت اكتسبت مجموعة المرتزقة فاغنر سمعة مخيفة من ناحية الوحشية.
فقد اتُهم عناصر فاغنر بتعذيب أسير سوري بمطرقة ثقيلة وقطع رأسه ثم إحراق جسده في عام 2017،
وفي العام التالي قُتل ثلاثة صحافيين روس أثناء قيامهم بتحقيق صحافي عن وجود عناصر فاغنر في جمهورية إفريقيا الوسطى.
وفي عام 2022، اتُهمت فاغنر مرة أخرى بقتل رجل بمطرقة ثقيلة بعد الاشتباه في «خونه» الجماعة في أوكرانيا، ووصف بريغوجين لقطات الفيديو التي لم يتم التحقق منها لعملية القتل الوحشي بأنها «موت كلب من أجل كلب»، وبعد أن دعا أعضاء البرلمان الأوروبي إلى تصنيف فاغنر على أنه جماعة إرهابية، قال بريغوجين إنه أرسل لأعضاء البرلمان الأوروبي المطرقة الملطخة بالدماء التي قتل بها الرجل.
لسنوات، نفى بريغوجين وجود أي صلة له بفاغنر، بل رفع دعوى قضائية ضد أشخاص قالوا إنه مسؤول عن المجموعة، لكنه في سبتمبر 2022، قال إنه هو الذي أسسها في عام 2014.
فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة عقوبات على فاغنر، لكن يُسمح لها بالعمل في روسيا رغم أن القانون يحظر المرتزقة.
«مزرعة البوت والترول»
الجبهة الأخرى التي انخرط فيها بريغوجين في الشؤون الدولية اعتمدت على أشخاص سلاحهم لوحات مفاتيح الكمبيوترات بدلاً من حملة السلاح، ولسنوات كان بريغوجين يتهم بالوقوف وراء ما يسمى «مزارع الترول» أو «مصانع البوت» والتي تستخدم حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإلكترونية لنشر الآراء المؤيدة للكرملين، وتولت وكالة أبحاث الإنترنت (IRA) ومقرها سانت بطرسبرغ هذه المهمة، ويذكر أن هذه الوكالة اتهمت بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2016.
وفي شهر نوفمبر الماضي، افتتح مركز قيادة فاغنر الذي يضم مجموعة من المكاتب، في مدينة سانت بطرسبرغ، وخلص المدير السابق لمكتب التحقيقات الفدرالي روبرت مولر الذي تم تعيينه للتحقيق في مزاعم التواطؤ بين حملة الرئيس دونالد ترامب وروسيا، إلى أن وكالة أبحاث الإنترنت شنت حملة على وسائل التواصل الاجتماعي تهدف إلى إثارة الخلافات السياسية والاجتماعية في الولايات المتحدة وتضخيمها، وجاء في تقرير مولر أن العملية تطورت بعد ذلك إلى حملة لدعم ترامب والاستخفاف بمنافسته في الانتخابات هيلاري كلينتون.
فرضت الولايات المتحدة عقوبات على وكالة أبحاث الإنترنت وبريغوجين شخصيا بسبب التدخل في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 ومحاولة التدخل في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس عام 2018.
أوكرانيا هي هدف رئيس آخر لحملات التضليل التي تشنها وكالة أبحاث الإنترنت، وقالت المملكة المتحدة إن «جنود الإنترنت» الذين يشتبه بصلاتهم ببريغوجين شنوا هجمات إلكترونية على عدد من الدول من بينها المملكة المتحدة وجنوب إفريقيا والهند.
تمامًا كما هي الحال مع فاغنر، بعد إنكار أي صلة له بهذه الوكالة ومقاضاة الأشخاص الذين لمحوا إلى أنه وراء «مصانع الترول ومزارع البوت»، ادعى بريغوجين في فبراير 2023 أنه «صاحب الفكرة والمؤسس والقائم على الوكالة».
لماذا كان بريغوجين مفيداً لبوتين؟
ولكن لماذا يريد الكرملين من شخص مثل بريغوجين أن يقوم بحملات تضليل وعمليات عسكرية في جميع أنحاء العالم؟
أحد الأسباب الرئيسة هو ما يسمى «الإنكار المعقول»، حيث يتيح استخدام عملاء خاصين للحكومة الروسية إنكار تورطها في عمليات حساسة للغاية.
وفيما يتعلق بسبب قيام بريغوجين بالأدوار الموكلة له يقول الصحافي إيليا زيغوليف، الذي درس سيرة حياة بريغوجين بالتفصيل، أن هناك عدة أسباب، ويوضح: «لم يرفض أبداً القيام بأعمال قذرة، ولم يكن لديه ما يفقده من ناحية السمعة».
ويضيف أن ماضي بريغوجين سبب آخر، فـ«بوتين لا يحب الأشخاص الذين يتمتعون بسمعة لا تشوبها شائبة، لأنه من الصعب السيطرة عليهم، وبناءً عليه يعتبر بريغوجين مرشحاً مثالياً» لتنفيذ المهام القذرة.
في مقابلة نادرة في عام 2011، قال بريغوجين إنه كتب ذات مرة كتاباً للأطفال ساعدت فيه «الشخصية الرئيسية الملك على إنقاذ مملكته» ثم قام لاحقاً بـ«شيء بطولي حقًا».
كيف تشارك فاغنر في معارك أوكرانيا؟
في البداية، تجنب بريغوحين الأضواء وعادة ما كان يتواصل مع وسائل الإعلام من خلال البيانات الصادرة عن شركة الإطعام الخاصة به كونكورد.
تغير هذا بعد أن باشرت روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا في فبراير 2022، فبعد شهور من انطلاق من الحملة، كان من الواضح أنها تتعثر وباتت خدمات بريغوجين مطلوبة بشدة، وأظهرشريط فيديو نُشر في 3 مارس يفغيني بريغوجين وهو يتحدث من مدينة باخموت، وبعد سنوات من إنكار وجود فاغنر اعترفت وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الكرملين فجأة في 27 يوليو 2022 بأن فاغنر تقاتل في شرق أوكرانيا.
بدأ بريغوجين أيضا بنشر مقاطع فيديو تم تصويرها على ما يبدو في أجزاء محتلة من أوكرانيا على وسائل التواصل الاجتماعي يتفاخر فيها ببطولات فاغنر هناك، وفي ذلك الوقت لم تكن هناك شركة عسكرية خاصة على مستوى العالم تملك هذا الكم من الأسلحة والمعدات بما في ذلك طائرات مقاتلة ومروحيات ودبابات.
بعد مقتل عشرات الآلاف من القوات الروسية في أوكرانيا سُمح لبريغوجين بتجنيد سجناء للقتال في صفوف فاغنر، فزار شخصيا العديد من السجون حيث وعد المجرمين المدانين بأنهم سيكونون قادرين على العودة إلى ديارهم أحراراً وتلغى الأحكام الصادرة بحقهم، بعد أن يمضوا ستة أشهر في صفوف مقاتلي فاغنر في أوكرانيا هذا إذا نجوا من الموت في المعارك!
من النقد إلى المواجهة المباشرة
لكن مع تعثر الغزو الروسي أصبح بريغوجين أكثر حدة في انتقاد للقيادة العسكرية الروسية، وساءت علاقته مع وزارة الدفاع ومُنع من تجنيد المزيد من السجناء في أوائل عام 2023، فقد ادعى مرارا وتكرارا أن وزارة الدفاع حرمت فاغنر من الذخيرة واتهم وزير الدفاع سيرغي شويغو ورئيس الأركان العامة فاليري غيراسيموف بالخيانة.
اشتدت انتقادات بريغوزجين الصريحة لتتحول إلى مواجهة مباشرة في يونيو 2023 مع القيادة العسكرية الروسية عندما اتهم الجيش الروسي بمهاجمة قاعدة فاغنر في أوكرانيا وهو ما نفته موسكو.
عقب ذلك عبر مقاتلو فاغنر الأراضي الأوكرانية المحتلة وانتقلوا إلى روسيا واستولوا على مواقع عسكرية رئيسة في مدينة روستوف الواقعة جنوب روسيا بالقرب من الحدود مع أوكرانيا، وفتحت روسيا تحقيقاً جنائياً ضد بريغوجين بتهمة التحريض على تنفيذ تمرد مسلح، في حين وصف الرئيس بوتين أفعاله بأنها «خيانة».
لكن بعد ساعات مما بدا وكأنها مسيرة لمقاتلي فاغنر نحو موسكو للإطاحة بالقيادة العسكرية الروسية أمر بريغوجين قواته بالتوقف، وأعلن أنه وافق على صفقة توسط فيها زعيم بيلاروسيا ألكسندر لوكاشينكو.
وأكد الكرملين تفاصيل الصفقة التي تضمنت إسقاط التهم عن بريغوجين وأفراد فاغنر الذين شاركوا في التمرد، مقابل انتقال قائد المرتزقة المثير للجدل إلى بيلاروسيا، وغادر بريغوجين روستوف بعد الصفقة لكن مكان وجوده لا يزال مجهولاً.
فيتالي شيفشينكو*