القانون والتنمية المستدامة
تعيش المجتمعات في زمن يتطلع فيه الجميع إلى التنمية المستدامة والرفاهية الشاملة، وفي سبيل تحقيق هذه الأهداف يلتقي كل من القانون والتنمية في مساحة مشتركة تساهم في بناء مجتمعات متماسكة ومزدهرة، حيث استناداً الى التعريف المبسط والتقليدي للقانون المكون من مجموعة المبادئ والقواعد التي تحكم سلوك الأفراد والمجتمعات وتنظم الحقوق والواجبات، فإن تطبيقه وسيادته يرتبطان بصلة وثيقة بالجهود الآيلة لتحقيق التنمية في المجتمعات وتحسين الأوضاع الاقتصادية والرفاهية المجتمعية وتعزيز البنية الثقافية والبيئية والصحية... إلخ.
يعمل كل من القانون والتنمية المستدامة- كل في مجاله- على تحقيق نوع من التوازن، حيث إن التعريف العلمي المعترف به دولياً للاستدامة هو «تلبية احتياجات الجيل الحالي دون المساس بقدرة الأجيال المستقبلية على تلبية احتياجاتها» في حين يتجسد القانون بصورة ميزان عدالة يضمن تحقيق التوازن والتصالح والاستقرار بين مختلف مكونات المجتمع أفراداً وجماعات.
يرجع تاريخ التداول شبه الرسمي لعبارة «التنمية المستدامة» الى العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث ظهرت الحاجة إلى اتخاذ إجراءات للتصدي للتحديات البيئية والاقتصادية والإدارية والاجتماعية التي تواجهها البشرية، وتعد تقارير «مستقبلنا المشترك» الصادرة عام 1987عن اللجنة العالمية للبيئة والتنمية- المنشأة من قبل الأمم المتحدة- بمنزلة نقطة تحول مهمة في تثبيت مفهوم التنمية المستدامة عالمياً، والتي تتفرع علمياً الى أربعة أبعاد رئيسة هي:
- البعد الاقتصادي: ويتعلق بضمان التنمية الاقتصادية التي تعزز الازدهار وتعمل على تحقيق العدالة الاجتماعية وتقليل الفقر، مما يقتضي تطوير الأنشطة المستدامة والمبتكرة وتعزيز النمو الشامل والمستدام.
- البعد الاجتماعي: وهو يرتبط بتحقيق العدالة الاجتماعية وضمان حقوق الإنسان وتكافؤ الفرص المتساوية للجميع، ويتطلب هذا البعد التركيز على التمكن من الخدمات الحكومية وتعزيز المشاركة المجتمعية.
- البعد البيئي: ويستهدف الحفاظ على البيئة وحمايتها من التلوث والاستنزاف، ويشمل ذلك تعزيز الاستدامة البيئية وتحسين إدارة الموارد الطبيعية وحماية التنوع البيولوجي.
- البعد الإداري والسياسي: ويعني تعزيز القدرة على اتخاذ القرارات الفعالة وتطوير السياسات والأطر القانونية التي تدعم التنمية المستدامة، ويتضمن ذلك تكريس الحوكمة وتعزيز التعاون والشراكات المستدامة بين الحكومات والمجتمع المدني والقطاع الخاص.
وعليه فإن تحقيق الأبعاد المختلفة للتنمية المستدامة يتطلب من أصحاب الشأن في القطاعين العام والخاص، أفراداً ومؤسسات، تبني سلوكيات وممارسات سليمة ومنضبطة يؤدي القانون وسيادته في تنظيم إيقاعها ضمن إطار تناسق وتكامل الأدوار الآيلة الى التقدم الشامل في بيئة مستدامة وعادلة ومستقرة، وهذا يبرز من خلال دور المنظومة القانونية بتحقيق عدة مستهدفات من أبرزها:
1- تعزيز الثقة والاستقرار، إذ يوفر التطبيق العادل والصارم للقانون الواضح والشفاف أرضية صلبة لتعزيز الثقة في النظام القانوني ضمن بيئة مستقرة وآمنة ومناسبة للتنمية الشاملة، بحيث يمكن للأفراد والشركات التخطيط للمستقبل بدافع من الثقة والطمأنينة.
2- سياسة تشريعية هادفة، إذ تستهدف المنظومة القانونية تعزيز الاستدامة في قطاعات مختلفة من خلال توسيع مروحة النصوص القانونية لتشمل تنظيم قطاعات متعددة مستهدفة مثل الزراعة والصناعة والطاقة والنقل، بحيث يتم توجيه السياسات والتشريعات لتعزيز أفضل الممارسات التي تصب في تكريس مفاهيم التنمية والاستدامة.
3- تحقيق التوازن بين الاحتياجات المتنافرة، إذ يوفر القانون القدرة على تحقيق التوازن بين متطلبات التنمية الصناعية مثلاً والحفاظ على البيئة، فتضع أحكامه آليات للتقييد والرقابة على الأنشطة الصناعية التي قد تؤثر سلباً على البيئة، مع مراعاة الحاجات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية للقطاع الصناعي.
4- تنظيم النشاط الاقتصادي وحماية المستهلكين، حيث يساهم القانون في تنظيم النشاط الاقتصادي وضمان المنافسة العادلة وحماية المستهلكين، فتنظم ضوابطه العلاقات وتحمي الحقوق وتضمن الالتزامات وتوفر بيئة مواتية لممارسة الأعمال.
5- تشجيع الابتكار والاستثمار، إذ من شأن القوانين الواضحة والعادلة والشفافة، التي توفر حوافز ومزايا وضمانات وتدعم الأبحاث وتطوير التكنولوجيا النظيفة، أن تشجع على الابتكار والاستثمار في مختلف القطاعات التي تسهم في عمليات التنمية والتحول إلى الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا المتطورة.
6- حماية حقوق الملكية الفكرية المرتبطة بالإبداع، إذ يوفر القانون حماية دولية ومحلية لحقوق الملكية الفكرية، مثل حقوق البراءات والعلامات التجارية وحقوق النشر، الأمر الذي من شأنه التشجيع على الاختراع والإبداع ويسهم في نقل التكنولوجيا والمعرفة، مما يعزز التنمية الشاملة والمستدامة.
7- تكريس العدالة وتمكين المجتمعات، حيث يؤدي القانون دوراً رئيساً في ضمان مبدأ المساواة والمعاملة العادلة للجميع في توزيع الموارد والاستفادة من الفرص والحصول على الخدمات، كما تتيح أحكامه الوسائل الممكنة للمجتمعات والأفراد بالدفاع عن الحقوق والمطالبة بالتعويضات المناسبة، والمشاركة الفعالة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
8- تعزيز الشفافية ومكافحة الفساد، حيث يسهم القانون في إنشاء أنظمة وإجراءات قانونية فعالة لمكافحة الجرائم المرتبطة بهدر وسرقة المال العام والخاص وتعزيز النزاهة والشفافية في المؤسسات الحكومية والخاصة.
9- تعزيز المسؤولية القانونية، حيث يضع القانون مسؤولية واضحة على الأفراد والشركات والمؤسسات لاتخاذ إجراءات مستدامة من خلال فرض الالتزام بالقوانين والضوابط ذات الصلة بأبعاد التنمية المستدامة، وتطبيقها بشكل صارم.
10- تعزيز التعاون الدولي، حيث تعتبر سيادة القانون في أي من الدول محفزاً رئيساً لتكريس الثقة الدولية بها، ويساعدها في بناء منظومة قانونية مشتركة تسهل على مجتمعها التعاون مع الخارج في كل المجالات ذات الاهتمام والفائدة المشتركة مثل مكافحة الجرائم المنظمة، وحماية الموارد البحرية، ومكافحة التغيير المناخي وحماية التنوع البيولوجي... إلخ.
* كاتب ومستشار قانوني.