درستُ قبل عشرين عاماً في جامعة فرنسية مادة سميت علم اجتماع الشباب، وفي محاضرة حول موضوع «الجنوح»، أشار الأستاذ صاحب البشرة البيضاء إلى المهاجرين، رفعت يدي وسألت بالفرنسية عن علاقة العنصرية بتجارب المهاجرين، وكان رد الأستاذ حاداً وصريحاً، إذ أوضح أن «هذه ليست الولايات المتحدة، وليس لدينا هذا النوع من المشكلات هنا». وبعد نهاية المحاضرة، سحبتني شابة مسلمة من الكاميرون، المستعمرة الفرنسية السابقة، جانباً، إن «لدينا هذه المشكلات هنا».
ومع تأمل تلك التجربة التي عشتها في الماضي، فإن ما يذهلني الآن ليس فقط أن الأستاذ الأبيض أنكر بشكل قاطع وجود العنصرية في فرنسا، بل أيضاً حقيقة أن المرأة السوداء التي سحبتني جانباً (لتسر لي برأيها) لم تكن تشعر بالأمان للتحدث في قاعة الدرس، وأنها مخولة ذلك. وبوصفي باحثة أميركية من أصل إفريقي أجريت أبحاثاً حول العنصرية في فرنسا، فقد اعتدت على استخدام الفرنسيين البيض الولايات المتحدة كدرع مناسبة من أجل إنكار أن لمجتمعهم تاريخاً طويلاً من الاضطهاد العنصري، واليوم، لا يزال السياسيون والمفكرون والمحللون الفرنسيون، والغالبية الساحقة بينهم من أصحاب البشرة البيضاء، غارقين في الإنكار والادعاءات الكاذبة نفسها حول المساواة بين البشر. ويستمر ذلك حتى في وقت تواجه فيه البلاد صعوبة في التعاطي مع القتل الوحشي من قبل الشرطة للفتى نائل البالغ من العمر 17 سنة، إنه شاب فرنسي عربي يعيش في ضاحية «نانتير» الباريسية.
لم يكن موت نائل على يد الشرطة حادثة عشوائية، خلافاً لما أكده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، كذلك لم يأت موته كحادثة «لا يمكن تفسيرها». لقد جاءت تلك الحادثة كنتيجة منطقية لفصول التاريخ الاستعماري، والتحيز والسياسات العنصرية التي تتضافر معاً لتجعل حياة العرب والسود عرضة للخطر بشكل خاص في فرنسا.
في المقابل، سيكون من الخطأ القول إن المجتمع الفرنسي كله يعيش حالة إنكار حول وجود العنصرية، مونيا، والدة نائل، ليست في حيرة من أمرها في شأن السبب الذي أدى إلى وفاة ابنها الوحيد، ففي رأيها، أن الشرطة الفرنسية «رأت وجهاً عربياً، طفلاً صغيراً، وأرادت أن تقتله»، ولهذا التصور جذوره في التجارب اليومية للتنميط العنصري والإذلال وإساءة المعاملة على أيدي الشرطة، إضافة إلى الأدلة التجريبية على التحيز واسع النطاق ضد أبناء الأقليات المصنفة على أساس عنصري.
وفي عام 2017، أصدرت السلطات الفرنسية قانوناً كارثياً يخول الشرطة صلاحيات أوسع نطاقاً لجهة إطلاق النار على سائقي السيارات، وجاءت النتيجة مميتة بقدر كونها متوقعة، إذ تمثلت بزيادة هائلة في عدد عمليات القتل على أيدي الشرطة مع كون غالبية الضحايا من السود أو العرب.
في عام 2021، أجري استطلاع للرأي لمصلحة منظمة «أس أو أس راسزم» SOS Racisme الفرنسية المعروفة المناهضة للعنصرية، ووجد الاستطلاع أدلة على انتشار الكراهية العنصرية والتعصب العرقي في فرنسا على نحو واسع، إذ أعرب 50 في المئة من الفرنسيين عن شعورهم بأن ثمة «عدداً أكبر مما يجب» من الغجر في البلاد، في حين أشار 43 في المئة منهم إلى أن هناك «عدداً أكبر مما ينبغي» من العرب في فرنسا، وذكر 91 في المئة من السود في فرنسا أنهم قد تعرضوا للتمييز، حتى أن الحكومة الفرنسية نفسها أقرت بشكل محدود بوجود العنصرية، وذلك من دون أن تنفذ أي سياسات لمعالجة تلك الظاهرة. إن الغطرسة الاستعمارية التي يغذيها جهل فظيع بالتاريخ، قد مكنت الغالبية الفرنسية البيضاء من تجاهل أصوات الفرنسيين ممن صنفوا على أنهم «من أصحاب بشرة غير بيضاء» وإنكار معرفتهم ومحوهم وإسكاتهم بشكل متكرر (وكأنهم غير موجودين).
لقد أبلغني أستاذ علم الاجتماع الفرنسي الأبيض قبل عشرين عاماً، أن فرنسا لا تواجه مشكلة العنصرية، وفي المقابل، ثمة 100 ألف فرنسي عربي عبروا عن قناعة مغايرة عبر النزول إلى شوارع باريس في مسيرة تاريخية من أجل المساواة والتصدي للعنصرية، وفي الواقع كان أولئك الذين تستهدفهم العنصرية الفرنسية يرفعون أصواتهم ويحتجون ويقاومون على مدى أجيال في حين يضاعف الفرنسيون البيض إلى حد كبير من محاولات التلاعب بالعقول والإنكار والقمع. في ذلك الإطار، أبرزت الأكاديمية الفرنسية مامي فاتو نيانغ، أن الفرنسيات المتحدرات من أصول إفريقية أدين دوراً مهماً في الحركات الجذرية من أجل التحرر، في حين يكاد يغيب ذلك التاريخ عن المناهج التعليمية الفرنسية، وكذلك كان فرانس فانون، أحد أبرز المنظرين المعاصرين للعنصرية، فرنسياً أسود البشرة من جزيرة مارتينيك التي كانت ميداناً لممارسات الاستعمار سياسات الاستعباد والاستغلال على امتداد قرون، واستناداً إلى تجربته الشخصية، أدرك فانون الذي دعم الجهود الجزائرية للتحرر من الهيمنة الفرنسية، أن العنصرية مرتبطة بشكل جوهري بالاستعمار، فليس من الغريب إذاً أن عمله الثوري نادراً ما يدرس في فرنسا.
واستطراداً، من البدهي الإشارة إلى أن الإمبراطوريات الاستعمارية عاملت رعاياها بوحشية، إذ استخدمت معهم أساليب القتل الجماعي والتعذيب والتهجير والاستغلال والعمل بالسخرة، وكذلك يتسبب الاستعمار بضرر يبقى حاضراً على المدى الطويل في ثقافة المستعمرين (بكسر الميم) ونفسيتهم، وذلك من خلال تعليم أجيال من هؤلاء الناس أن ينظروا إلى غيرهم من البشر على أنهم (بلا قيمة) ويمكن التخلص منهم، وترسيخ شعور (المستعمرين) بأهميتهم في أسطورة التفوق. لا يمكن أن تختفي علاقات القوة هذه، وكذلك الحال بالنسبة إلى هذا المنطق الذي يجرد الإنسان من إنسانيته بطريقة سحرية، وبالتالي تجري شيطنة الفرنسيين من أمثال نائل المتحدر من أصول جزائرية ومغاربية، بسبب الإرث المستمر للعنصرية الاستعمارية. وبدلاً من التعامل بشجاعة مع تلك الحقائق الصعبة، اختارت السلطات الفرنسية مساراً خطراً لإعادة مراجعة التاريخ، وهكذا، بموجب القانون الفرنسي صدر عام 2005، صار المعلمون مطالبين بتأكيد «الجوانب الإيجابية» للاستعمار، وإن مثل هذا التلقين هو المسؤول مسؤولية مباشرة عن حالات التحيز التي أوصلت الشرطة إلى ممارسة استهداف غير متناسب، ضد الأشخاص الذين تربطهم علاقات قرابة قديمة بمستعمرات فرنسا السابقة، إضافة إلى العمل على مضايقتهم. كان المثقفون الفرنسيون، مثل آرثر دي جوبينو، من أوائل الذين صمموا أيديولوجية تفوق العرق الأبيض، ومع ذلك فإن معظم الفرنسيين لا يزالون يجهلون بشكل مؤسف تاريخهم والنتائج التي تمخضت عنه، وإن رفض الفرنسيين، ومعهم عديد من الأوروبيين الآخرين، مواجهة تاريخهم المستمر من العنصرية مواجهة صادقة قد يفسر أيضاً لماذا يبدو عديد من المراقبين البيض للانتفاضات الحالية أشد قلقاً في شأن تعرض المتاجر لأعمال السلب والنهب، بالمقارنة مع قلقهم بخصوص نهب وسلب قارات بأكملها.
لن يتحقق التغيير الهادف إلا حينما يتمكن الناشطون المناهضون للعنصرية وأفراد المجتمع والمواطنون من التغلب على قوى الإلغاء والإنكار التي تستمر في تشديد قبضتها على فرنسا عبر نمط مسيطر قوامه التقاعس (عن معرفة الحقائق التاريخية) والظلم.
في مسيرة أجريت عام 2020 لإحياء ذكرى أداما تراوري، الرجل الأسود الذي توفي بعد أن اعتقلته الشرطة الفرنسية، لفت أحد المتظاهرين بشكل صحيح إلى أن «لا شيء سيتغير على الإطلاق إلى أن يتم تثقيف الناس في شأن العنصرية، ويجب البدء من الشرطة».
* كريستال إم فليمنغ أستاذة علم الاجتماع والدراسات الإفريقية في جامعة ستوني بروك ومؤلفة كتاب «إحياء العبودية، الموروثات العرقية وتفوق البيض في فرنسا».