هي لم تتجاوز السابعة من العمر رغم أن كل ما هي وما عليها يوحي بأنها أصغر من ذلك بكثير ربما لسوء في التغذية أو انعدام توافر الغذاء، وهو الواقف قربها عند سور كورنيش البحر، هو يكاد يكبرها ببضع سنين رغم أنه الآخر قد تهالك جسده أمام قلة الأكل وساعات العمل الطويلة تحت أشعة الشمس.

وقفا عند السور بعيداً عن أعين المارة وهم كثر ممن يبحثون عن الرشاقة عبر المشي أو الجري أو عن «التان» أي لسعة لون الشمس على جسدهم، لم تنطق هي بكلمة ولا حتى هو، بقيا متسمرين عند مشهد الموجة الملتطمة بالصخور وكان الوقت يقترب من الظهيرة، وهما بالطبع قد رأيا كثيراً من المراكب واليخوت التي مرت قرب الشاطئ محملة بما هو أبعد من مخيلة طفلين كبرا على مهنة التسوّل في شوارع تلك المدينة المليئة بالمتناقضات.

Ad

كان من الواضح أنهما يسرقان اللحظة أو بعضاً منها، وواضح أيضاً أنهما حلّقا بعيداً مثل ذاك العصفور الباحث عن بقعة في فيّ ظهيرة هذا اليوم الحار جداً، أو ربما كانا يتخيلان الإحساس عند الغطس في البحر، فلمثلهما يبدو العوم في البحر أو مجرد الجلوس قربه حلماً أو ربما شيئاً من الخيال البعيد، هي وهو ربما أخوان أو ربما أخوان أيضاً في مهنة التسول التي يتحكم فيها كثير من التجار ككل شيء آخر في حياتهم.

وقفا ما يبدو أنه زمن طويل في لحظة العمل، أليس ما يقومان به هو عملهما اليومي من لحظة الشروق حتى مغيب الشمس حتى يعودا ليتسلم آخرون وأخريات «وردية» المساء والسهرة!!! في النهار يحملونهم قوارير الماء المثلج، وهو ما يحلمون به كيف يكون الإحساس عندما تبيع ما تتمنى ببضعة ملاليم أو ليرات أو دولارات، وفي المساء ولزوم أجواء السمر والسهر في الصيف يقوم آخرون في مثل أعمارهم وأصغر ببيع الزهور مع ابتسامة ومحاولة للإقناع «والنبي تنفعني إخواتي جوعانين في البيت» أو «خذ وردة لوردتك».

فجأة يقفز هو، بالتأكيد له اسم لكنه ليس ما يصرح به، ويردد عليها «يا الله لازم نرجع للشغل»، نعم هما تعلما أن التسوّل شغل، خصوصاً في المواسم والأعياد، وما هو أفضل من موسم الصيف حيث الإجازات وأوقات للبحر والمرح والرقص والموسيقى، هذا لكل البشر إلا أولئك الأطفال الذين حولهم كثير من التجار وبعض الأهل إلى أدوات للكسب الرخيص حتى لو كان ذلك على حساب صحتهم وتعليمهم وبالتأكيد كرامتهم ونفسياتهم.

جرها من يدها وهي متسمرة كأنها غارقة في همس مع الموجة القريبة التي سكنت تحت رجلها، وهي تحلم بأن تلامس ماءها دون أن تقدر، بعد إصراره وصريخه، تحركت لتجري خلفه ويعودا إلى ذاك التقاطع تحت أشعة الشمس التي تركت بصماتها على وجهيهما وجسديهما الصغيرين فوق خربشات «الخناقات» الكثيرة بينهما، إما منافسة على زبون أو لتقاسم ورقة مالية صغيرة أو حتى لتقاسم قطعة من السندوتش أو الشوكولاتة التي «تركت» أو تكرم أحدهم بإعطائهما بقاياها قبل أن يرميها في الزبالة.

بقيت هي ملقية نظراتها نحو البحر وكأنها تودع ذاك العصفور الذي احتمى من أشعة الشمس بظلها أو الموجة التي تصورت هي، ربما بسذاجتها أو طيبتها، أنها تبعد لتعود مرة ومرات من أجلها أو لتناديها لتقفز من فوق ذاك الحاجز فتغطس في ملح ماء البحر وبرودته، بقيت عيناها الواسعتان، بحدقتيهما بنيتي اللون أو ربما هما كستنائيتان، تحدقان نحو الأفق حتى ليخيل للمراقب وكأنها مسحورة بشيء أو أمر ما. اختفت بعد لحظات هي وهو بين العربات وباعة الذرة والفول النابت والفوشار والبالونات بلون قوس قزح، كلها مغريات لطفل وطفلة عند كورنيش البحر في صيف المدينة المسحورة.

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية