استقلال القضاء
لا أكتم خشيتي من أن يجرفنا استقلال القضاء وتوقيره، وتقرير الضمانات الضرورية لحسن سير العدالة، وأنه لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه، إلى إهدار هذا الاستقلال، وجعله أثراً بعد عين، إذا أغرانا سحر هذا الاستقلال، بأن نحمّل رجال القضاء فوق طاقتهم، من أعباء إدارية ومالية في شؤون مرفق العدل، وهي أمور غاية في التشعب.
وإن حرصي على بقاء الثوب الأبيض للقضاء، ناصع البياض، وحرصي على نزاهة القضاء وكرامته، يدفعني إلى مطالبة النائب المحترم بدر الملا، مقدم الاقتراح بتنظيم القضاء الذي أكنّ له ولإخوانه الذين شاركوه في تقديمه، مع إقراري بنبل الباعث على تقديمه، أن يعيدوا الاقتراح إلى الفنيين الذين أعدوه لتلافي شبهات عدم دستورية وردت فيه، وذلك نأياً بالقضاء وبمجلسه الأعلى ورئيس هذا المجلس عن ممارسة اختصاص، لا قبل لهم به، في الأمور الإدارية والمالية التي لا تخدش الكرامة ولا تمسها بسوء إلا أنها في حق القضاة منقصة، ومظنة شبهة أو تهمة.
وليس ببعيد عن الأذهان الضجة الكبيرة التي أثارها تقرير لديوان المحاسبة في عام 1997 عن تقاضي بعض أعضاء النيابة العامة مبالغ مالية من شركات ناقلات نفط الكويت، علاوة على بدل السفر المقرر لهم قانونا عن المهام التي قاموا بها، فالنأي برجال القضاء عن هذه الشبهات هو ما يحافظ على استقلالهم، ونتناول هذه الأمور تباعاً فيما يلي:
المفهوم الصحيح لمبدأ الفصل بين السلطات
فيما تنص عليه المادة (50) من الدستور من أنه: «يقوم نظام الحكم على أساس فصل السلطات مع تعاونها وفقا لأحكام الدستور ولا يجوز لأي سلطة منها النزول عن كل أو بعض اختصاصها المنصوص عليه في هذا الدستور».
وقد ورد تالياً لهذا النص نصوص المواد (51) و(52) و(53) التي حدد فيها الدستور الaسلطات الثلاث، السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، والسلطة القضائية على التوالي، وقد جسد الدستور الفصل بين السلطات كذلك في الفصول التالية التي أفرد فيها لكل سلطة فصلا خاصا بين فيه اختصاصات كل منها.
فالفصل الثاني من باب السلطات أفرده لسلطات رئيس الدولة، التي يمارسها بواسطة وزرائه في المادتين (54- 78) وأفرد الفصل الثالث، للسلطة التشريعية وصلاحياتها، التي تمارسها في المادتين (79-122) واختص الفصل الرابع بالسلطة التنفيذية واختصاصاتها في المادتين (123-161)، وانفرد الفصل الخامس بأحكام السلطة القضائية في المادتين (162-173).
وفي تحديد المفهوم الصحيح لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يقوم عليه نظام الحكم في الكويت فإنه لا يجوز عزل هذه النصوص مجتمعة عن بعضها، وإنما تتأتى دلالة أي منها في ضوء دلالة باقي النصوص وفقا للمنهج الأصيل في تفسير نصوص الدستور باعتبارها وحدة واحدة، يفسر بعضها بعضاً (قرار التفسير الذي أصدرته المحكمة الدستورية في طلب التفسير رقم (10) لسنة 2002).
وقد دل الدستور بهذه النصوص جميعاً دلالة قاطعة على الأمور الآتية:
الأمر الأول: إن الفصل بين السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية، ليس فصلا مطلقا، بل فصل لحمته التعاون بينها، وجوهر مبدأ الفصل بن السلطات هو ما قرره الفقه الفرنسي في مقولته الشهيرة
(Le pouvoir arête le pouvoir) أي أن السلطة تحد السلطة، تحد من جموحها أو استبدادها.
الأمر الثاني: انفراد كل سلطة بوظيفتها المحددة لها، ذلك أنه من الخطأ الظن بأن فصل السلطات الذي يقوم عليه نظام الحكم في الكويت إعمالا للمادة (50) من الدستور، هو فصل عضوي بين سلطات تتصارع وتتناحر على مزيد من الصلاحيات والاختصاصات، وقد حدد الدستور وظيفة كل سلطة من السلطات الثلاث تحديداً قاطعا لا لبس فيه أو غموض أو إبهام بالنص على ما يلي:
1- سمى الدستور كل سلطة بما يحدد وظيفتها واختصاصها، فالسلطة التشريعية تسن التشريعات، والسلطة التنفيذية تنفذها، والسلطة القضائية تطبقها في المنازعات التي تطرح أمامها.
2- ولم يكتف الدستور بهذه المسميات لتحديد اختصاص كل سلطة بل قيد كل سلطة بما نص عليه في عجز هذه المواد، بأن يكون ذلك (وفقا للدستور) في المادة 51، (وعلى النحو المبين في الدستور) في المادة (52) وفي (حدود الدستور) في المادة (53)، ثم حدد الدستور لكل سلطة فصلا مستقلا بها في باب السلطات يبين اختصاصاتها وصلاحياتها، كما قدمنا.
3- بل زاد الدستور على ذلك بأن نصت المادة (50) من الدستور الذي استهل بها نصوصه كافة المتعلقة بالسلطات بأن نصت في عجزها بأنه «لا يجوز لأي سلطة النزول عن كل أو بعض اختصاصها المنصوص عليه في هذا الدستور».
وبذلك جعل الدستور اختصاص كل سلطة اختصاصا يتعلق بالنظام العام الدستوري الذي لا يجوز الاتفاق على ما يخالفه، ولو بقانون تقره السلطة التشريعية، ويصدق عليه الأمير ويصدره.
فالفصل بين السلطات هو فصل مطلق بالنسبة الى وظيفة كل سلطة، بانفراد كل سلطة بوظيفتها التي اختصها بها الدستور، وهو فصل لحمته التعاون بين السلطات الثلاث في أداء كل سلطة وظيفتها.
فكما أن القضاء يبسط وظيفته في الرقابة القضائية على السلطتين التشريعية والتنفيذية، من خلال رقابة دستورية القوانين، ورقابة مشروعية القرارات الإدارية، فإن السلطة التشريعية تبسط تشريعاتها في تنظيم أعمال السلطات الثلاث بقوانين تسري على السلطات كافة.
كما أن السلطة التنفيذية تمارس اختصاصها ووظيفتها في تسيير المرافق العامة، إدارياً ومالياً، ولو كانت تابعة لسلطة أخرى أو ملحقة بها، عدا استثناءين، ورد أحدهما بنص دستوري هو نص المادة (117) التي فوضت مجلس الأمة في وضع لائحته الداخلية ليتسنى لهذه اللائحة تقرير استقلال المجلس بشؤونه الإدارية والمالية، وهو ما سنشرح مبرراته في مقال قادم بإذن الله.
أما الاستثناء الآخر فهو الاستثناء الخاص بتعيين رئيس ديوان المحاسبة ونائبه، باعتبار الديوان ملحقاً بمجلس الأمة إعمالا للمادة (151) من الدستور.