يدرك قادة العالَـم جميعا تمام الإدراك التحديات التي يواجهها المجتمع العالمي: خسارة التقدم الذي أحرزناه في معركتنا ضد الفقر، وأزمة المناخ التي تهدد وجودنا، والتعافي القاصِـر من الجائحة، فضلا عن حرب مُـحـبِـطة على حدود أوروبا. ولكن تحت السطح، يكمن انعدام الثقة العميق الذي يفصل رويدا رويدا بين الشمال والجنوب في وقت حيث نحتاج إلى التوحد إذا كان لنا أن نحظى بأي أمل في التغلب على هذه الأزمات المتشابكة.
الواقع أن إحباط الجنوب العالمي مفهوم، فعلى أكثر من نحو، تدفع بلدان الجنوب ثمن ازدهار ورخاء الآخرين، وبينما يجب أن تكون في صعود، تخشى أن تُـحَـوَّل الموارد الموعودة نحو جهود إعادة بناء أوكرانيا، وتشعر أن تطلعاتها أصبحت مقيدة لأن قواعد الطاقة لا تُـطَـبَّـق عالميا، ويساورها القلق من أن جيلا صاعدا مزدهرا سَـيُـحـبَـس في سجن الفقر.
لكن الحقيقة هي أننا لا نستطيع أن نتحمل فترة أخرى من النمو الذي يُـنتِـج انبعاثات غازية ضارة بكثافة. يتعين علينا أن نجد السبيل إلى تمويل عالَـم مختلف، عالَـم حيث تتعاظم القدرة على مقاومة تغير المناخ، ويصبح من الممكن التحكم في الجوائح الـمَـرَضية وإدارتها بنجاح، ويتوافر الغذاء، ويُـهـزَم الفقر والهشاشة.
إن التحديات التي تواجهنا لا تحترم أي خطوط على الخريطة ومن المستحيل التصدي لها على النحو الوافي من خلال جهود متدرجة شيئا فشيئا، وهي تؤثر علينا جميعا، لكننا نستشعر تأثيراتها بشكل مختلف. في الشمال العالمي، يعني تغير المناخ جهود خفض الانبعاثات، لكنه في الجنوب العالمي يتحول إلى مسألة بقاء، حياة أو موت، لأن الأعاصير أقوى، والمتاح من البذور المقاومة للحرارة منقوص، والجفاف يدمر الـمَـزارع والبلدات، والفيضانات تجرف معها عقودا من التقدم.
في المنتصف، بين العالمين، يوجد البنك الدولي، وعلى الرغم من التشكيك في أهمية هذه المؤسسة التي بلغت من العمر 78 عاما، يتطلع العالَـم إليها لتسليم الحلول على نطاق واسع، ولإنجاز هذه المهمة، يجب أن يتبنى البنك رؤية جديدة ورسالة تليق بتطلعاتنا المشتركة، وفي اعتقادي أن رؤية البنك الدولي يجب أن تكون بسيطة: إنشاء عالَـم خال من الفقر على كوكب صالح للعيش.
لكن هذه الرؤية مهددة بفعل هذه الأزمات المتشابكة، ونحن في سباق حقيقي مع الزمن، ويحفزنا هذا الإلحاح على تدوين دليل جديد يقود جهود التنمية الحقيقية، على النحو الذي يُـفـضي إلى نوعية حياة ووظائف أفضل للناس.
يجب أن يصل دليلنا هذا إلى الجميع، بما في ذلك النساء والشباب، ويجب أن تكون جهود التنمية التي يدعمها مرنة في مواجهة الصدمات، كتلك المرتبطة بتغير المناخ، وخسارة التنوع البيولوجي، والجوائح الـمَـرَضية، والصراعات والهشاشة، ويجب أن تكون أيضا مستدامة وقادرة على تحقيق النمو الاقتصادي الثابت وخلق فرص العمل، وترسيخ المكاسب في الصحة والتعليم، وإدارة الأمور المالية والديون بشكل جدير بالثقة، وتوفير الأمن الغذائي، وتمكين الوصول إلى الهواء النظيف، والمياه النظيفة، والطاقة بتكلفة ميسورة.
الواقع أن كل من تناول البنك الدولي بالدراسة، كما فعلت شخصيا، يدرك أنه يستحق الإعجاب، لأنه خرج من رحم الصراع لكي يوجه طاقات البلدان من الحرب إلى ملاحقة السلام، لكن التاريخ والإرث لا يمكنهما مساعدتنا الآن، بل يجب أن نكتسب شرعيتنا يوميا من خلال التأثير الذي يخلفه البنك على حياة الناس.
يشهد الأسبوع المقبل لقاء مجموعة متنوعة من القادة من أكبر عشرين اقتصادا في العالَـم في الهند لحضور اجتماع وزراء مالية ومحافظي البنوك المركزية في مجموعة العشرين، وبين البنود المدرجة على جدول الأعمال إصلاح كل بنوك التنمية المتعددة الأطراف تحت مظلة ما نسميه «خريطة طريق التطور».
لا يجوز لنا أن نعمل على تنفيذ خريطة الطريق من خلال العمل كالمعتاد، بل يتطلب الأمر التحرك العاجل، وحِـس الغرض، والعمل الجاد على مستوى لا يقل عن المجهود الحربي، ويحتضن البنك الدولي هذه الفترة التي يغلب عليها التغيير.
نحن نعمل بالفعل على تحديد الكفاءات الجديدة التي ستتيح لنا إنجاز قدر أكبر من العمل في وقت أقل، تحفيز النواتج وليس المدخلات وضمان أن تركيزنا لا يقتصر على الإنفاق المالي، بل على عدد الفتيات في المدارس، وعدد الوظائف التي ننشئها، وعدد الأطنان من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون التي نتجنبها، وعدد الدولارات التي نتمكن من حشدها في القطاع الخاص.
لقد عملنا على وضع خطة عمل لتحقيق أقصى قدر من الاستفادة من كل دولار، في حين نحافظ على تصنيفينا الائتماني الممتاز (AAA)، ونحن نبذل قصارى جهدنا لتعزيز قدرتنا على الإقراض، وإيجاد السبل للاستفادة من رأس المال المتاح على الفور، وإنشاء آليات جديدة مثل رأس المال الهجين القادر على تحرير موارد لا حصر لها لتحقيق النتائج، كما نسعى إلى توسيع وتطوير التمويل الميسر حتى يتسنى لنا من خلاله مساعدة عدد أكبر من البلدان المنخفضة الدخل على تحقيق أهداف التنمية، مع التفكير بشكل خَـلّاق في الاستخدامات الكفيلة بتحفيز التعاون عبر الحدود والتصدي للتحديات المشتركة.
لكن كل التقديرات تقريبا توضح أن التقدم الوافي يستلزم توفير تريليونات من الدولارات سنويا، وعلى هذا فإننا نفتح أبوابنا لشركاء من القطاع الخاص، ونعمل جنبا إلى جنب لدعم التقدم الحقيقي المستدام الذي استعصى علينا حتى الآن.
الواقع أن حشد الموارد اللازمة لتوليد النمو والوظائف، وهو السبيل الذي نعلم أنه الأفضل على الإطلاق للحد من الفقر، مهمة شاقة ستختبر إخلاصنا وقدراتنا المشتركة، وما يدعو إلى التفاؤل أن مؤسستنا مصممة لمواجهة التحديات العصيبة، ولكن مع التزامنا ببناء بنك أفضل، نعلم أننا سنحتاج إلى بنك أكبر بمرور الوقت.
إن البنك الدولي مجرد أداة تعكس في النهاية طموح أولئك الذين يعتمد على سخائهم، والتقدم الذي نطمح إلى تحقيقه لن يتسنى بلا تكلفة، ولكن إذا كانت أصولنا تنطوي على أي حكمة، فهي أن التحديات الضخمة تتطلب استجابة موحدة ومتصاعدة.
لا شك أن تأخير التنمية يعادل الحرمان من التنمية، ولهذا السبب يجب أن نتغلب على التأثيرات المترتبة على التعددية غير الفَـعّـالة، والمنافسة الجيوسياسية، وانعدام الثقة الذي أصبح واسع الانتشار في مختلف أنحاء الجنوب العالمي، يجب أن يعمل البنك الدولي كملجأ نحتمي به من هذه القوى، وملاذ للتعاون والإبداع، وإذا تمكنا من بناء ذلك البنك، فسيتسنى لنا النهوض بأعمال وإنجازات كبرى، وسنتمكن من القضاء على الفقر لنحيا جميعا على كوكب صالح للعيش.
* أجـاي بـانـجـا رئيس مجموعة البنك الدولي.