جورجيا ميلوني ولعبة التوازن

نشر في 07-11-2022
آخر تحديث 06-11-2022 | 19:48
من المؤكد أن ميلوني تتطلع إلى الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عام 2024، فبوجود دونالد ترامب أو شخصية شبيهة به في البيت الأبيض ستحظى بأصدقاء أقوى في تحدي توازن القوى القائم بالاتحاد الأوروبي.
 بروجيكت سنديكيت عندما ألقت جورجيا ميلوني أول خطاب لها أمام مجلس النواب الإيطالي في الخامس والعشرين من أكتوبر، لم يكن المرء ليعرف ماذا يصدق: اللغة أو لغة الجسد، الرسالة أو اختيار الكلمات، الواقع أن ميلوني، واحدة من المعجبين ببنيتو موسيليني سابقا والناشطة الفاشية أثناء سنوات المراهقة، والتي يقود حزبها «إخوان إيطاليا» الائتلاف الحاكم الجديد، تفرض الآن سلطانها على الطبقة السياسية المضمحلة في بلد يعاني شيخوخة سكانية، تُـرى كيف تعتزم أول رئيسة وزراء في إيطاليا (وفي سن الخامسة والأربعين تُـعَـد الثانية بين أصغر رؤساء وزراء إيطاليا سنا)، التي نشأت في كنف أم عزباء في حي خشن في روما، حُـكـم دولة تشتهر بِـضَـعف الحراك الاجتماعي وصاحبة ثاني أقل معدلات توظيف الإناث في الاتحاد الأوروبي؟

أطلقت ميلوني على نفسها وصف «المستضعف غير المتوقع الذي قلب التوقعات»، مضيفة، «وأنا أخطط لفعل ذلك مرة أخرى». لكن كما هي الحال دوما مع ميلوني، يدور الأمر كله حول ما يختار الرائي أن ينظر إليه، فستجد خلافا كبيرا بين الشكل والمحتوى إلى الحد الذي يجعل كلا من المعتدلين والمنتمين إلى اليمين المتطرف يجدون ما يروق لهم، فالإيماءات الحادة، والنظرات النارية، والصراخ في الميكروفون، كلها أدوات فاشية بامتياز، لكنها بعد ذلك تقتبس من مونتسكيو وتنفي أنها أبدت أي تعاطف مع الأنظمة غير الليبرالية، حتى بعد توجيهها الدعوة إلى رئيس الوزراء المجري المستبد فيكتور أوربان، كضيف خاص إلى آخر تجمعين سنويين لحزب إخوان إيطاليا.

أظهر أول مرسوم صادر عن حكومتها الهوة بين خلفيتها وما يمكن أن تحققه في ديموقراطية دستورية، يُـقـال إن هذا المرسوم، بغرض منع الحفلات الصاخبة، جعل التجمعات غير المصرح بها لأكثر من خمسين شخصا عُـرضة للعقاب بالسجن لمدة تصل إلى ست سنوات إذا اعتُـبِـرَت «خطيرة»، وستجبرها الاحتجاجات العنيفة التي أعقبت ذلك، حتى في أجزاء من أغلبيتها الحاكمة، على التراجع.

تبدو كل المفردات والإشارات التاريخية التي تستخدمها ميلوني وكأنها منتزعة من عصر آخر: فالآن تحل ألفاظ مثل «الأمة» و«الوطن الأم» محل «الدولة»؛ وتعني كلمة «الوطني» الآن في نظرها ونظر مؤيديها ما قد يسميه آخرون «شوفيني يميني»؛ وعلى نحو مفاجئ، يُـنـفَـض الغبار عن عبارة «توحيد إيطاليا» التي ترجع إلى منتصف القرن التاسع عشر، لكي تحل محل حركة المقاومة الإيطالية، وهي الانتفاضة الشعبية المناهضة للفاشية التي ساعدت على هزيمة موسيليني وألمانيا النازية خلال الفترة من 1943 إلى 1945، باعتبارها الأسطورة الوطنية التأسيسية.

بينما تخلق رئيسة وزراء إيطاليا الانطباع بأن الأرضية السياسية والثقافية تتغير، فإنها تدرك أيضا أنها غير قادرة، ماليا وسياسيا، على تحمل تكلفة تغيير مسار إيطاليا المؤيد للاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهي لهذا تحاول أن تبدو ثورية وتقليدية في الوقت ذاته، مصححة ميولها السابقة، ففي عام 2018، هنأت فلاديمير بوتين على فوزه «الجلي» في الانتخابات الرئاسية غير الحرة وغير النزيهة في روسيا، وحتى يونيو 2021، كانت لا تزال تتساءل حول الحكمة من التمسك باليورو.

ولكن بمجرد حصولها على التفويض الرسمي لحكومتها، أشارت إلى استمرارية كثير مما كانت تمثله حكومة رئيس الوزراء السابق ماريو دراجي التكنوقراطية، وقد أقسمت بالتحالف الغربي ووعدت بمواصلة دعم أوكرانيا، كما تعهدت بالعمل «في إطار المؤسسات الأوروبية... ليس لإفشال مشروع التكامل الأوروبي، بل لمساعدته على أن يصبح أكثر فعالية في مواجهة أزمات اليوم والتهديدات الخارجية». انتقدت ميلوني علنا إحكام السياسة النقدية من قَـبَـل البنك المركزي الأوروبي، لكنها تعهدت بالالتزام بقواعد الاتحاد الأوروبي لأن، كما أعلنت، «الدولة التي تحترم القواعد بشكل كامل هي فقط التي تمتلك السلطة الكافية للمطالبة بأن تكون تكلفة الأزمة الدولية موزعة بالتساوي بدرجة أكبر».



إن لعبة التوازن التي تمارسها ميلوني شاقة ومُـنهِـكة، وإشارتها إلى أوكرانيا توحي بأن الحرب اختبار حاسم، وعندما تقول إن تكلفة «الأزمة الدولية» يجب أن تكون «موزعة بالتساوي بدرجة أكبر»، فإنها تشير إلى أن إيطاليا ربما تطالب بتعويضات عن التضحيات الاقتصادية المترتبة على تنفيذ العقوبات ضد روسيا، لكن غرضها الحقيقي هو تحقيق المستحيل المتمثل في إيجاد التوازن داخل تحالفها اليميني وقاعدتها الانتخابية.

الواقع أن شريكيها في الحكومة، ماتيو سالفيني من حزب الرابطة وسيلفيو بيرلسكوني من حزب فورزا إيطاليا، كانا أشد تأييدا لروسيا بشكل علني، فعندما كان بيرلسكوني رئيسا للوزراء، وقعت شركة غازبروم عقودا ضخمة طويلة الأجل مع إيطاليا، بما في ذلك عقد مهم أبرم عام 2005 مع شركة لم يكن لديها أي خبرة سابقة في صناعة الغاز لكنها كانت مملوكة لأحد أصدقاء أسرة بيرلسكوني، أما عن سالفيني، فقد كان حزبه مرتبطا لفترة طويلة بحزب روسيا الموحدة بشراكة رسمية، وهناك تسجيل لحليف مقرب من سالفيني يناقش صفقات مالية في موسكو في عام 2018.

نأت ميلوني بنفسها عن مثل هذه التشابكات وكررت التأكيد على دعمها لأوكرانيا، لكنها يجب أن تعرف أن أنصارها ليسوا معها في هذه القضية، فوفقا لاستطلاع حديث أجرته مؤسسة إبسوس، فإن 12% من ناخبي حزب إخوان إيطاليا ينحازون لروسيا، وهي أعلى نسبة لأي حزب، الأمر الأكثر لفتا للنظر هو أن 51% من ناخبي ميلوني لا يوافقون على العقوبات ضد روسيا، ويرى 71% منهم أن العقوبات «غير فَـعّـالة».

في محاولتها نقل علامتها القومية اليمينية المتشددة إلى بيت الاتحاد الأوروبي والمؤسسات الغربية، يتعين على ميلوني أن تبحر عبر مياه سياسية غادرة، لكنها لن تتمكن من البقاء تحت الرادار لفترة طويلة، فقد بدأت مفوضية الاتحاد الأوروبي إجراءات لتجميد أموال بولندا والمجر في الاتحاد الأوروبي بسبب الهجمات التي تشنها حكومتا البلدين على المؤسسات الديموقراطية، وسيكون لزاما على إيطاليا أن تتخذ موقفا بشأن هذه القضية، بما في ذلك التصويت هذا الشهر في مجلس الاتحاد الأوروبي بشأن تمويل المجر. لكن كلا من أوربان وحزب القانون العدالة الحاكم في بولندا يعتبر ميلوني حليفة وينتظر منها الدعم، خصوصا أنها تترأس حزب المحافظين والإصلاحيين الأوروبيين الذي يضم حزب القانون والعدالة ذاته.

إذا انحازت ميلوني إلى المجر وبولندا، فإنها بذلك تشير إلى أن إيطاليا أصبحت الآن بعيدة تماما من الناحية السياسية عن دول الاتحاد الأوروبي الأساسية؛ مثل هذا الموقف قد يغذي انعدام الثقة حتى في الأسواق المالية بسبب ديونها المرتفعة، فالمعضلة التي تواجهها تكمن في أنها إذا انحازت إلى مفوضية الاتحاد الأوروبي، فقد تشعل شرارة عملية إعادة اصطفاف واسعة نحو المركز السياسي، بدلا من اكتساب الشرعية داخل مؤسسات الاتحاد الأوروبي باعتبارها قومية تضرب بجذور راسخة في اليمين المتطرف، والأرجح أنها ستحاول تجنب هذا الأمر برمته.

من المؤكد أن ميلوني تتطلع إلى الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة عام 2024، فبوجود دونالد ترامب أو شخصية شبيهة بترامب في البيت الأبيض، ستحظى بأصدقاء أقوى في تحدي توازن القوى القائم في الاتحاد الأوروبي، وبحلول ذلك الوقت، قد يكون الوفاق الودي بين إيطاليا القومية، وبولندا، وبريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي، هو كل ما قد يتمناه البيت الأبيض الجمهوري في أوروبا، وسيكون الاتحاد الأوروبي الطرف الأضعف كثيرا لهذا السبب.

* فيديريكو فوبيني صحافي اقتصادي ومحرر حُـر لدى صحيفة كوريري ديلا سيرا، وأحدث مؤلفاته كتاب Sul Vulcano «فوق البركان».

back to top