هو يعرّف نفسه بأنه خارج السور، وطقس هذا الصيف أكثر صعوبة وتوحشاً من أن يحاول أحدنا، أي الأصدقاء الذين هربوا من حرارة قاتلة لحضن الشجر وبعض الموسيقى وما بينهما، أن يتحمل طاقة السؤال: «ماذا تعني خارج السور؟»، أو «أي سور هو؟»، يتربع هو القادم من هناك حيث نحن الذين اعتدنا منذ سنين بعيدة على حرارة الصيف القاتلة، أو ربما تأقلمنا أو عملنا جهدنا لنتكيف معها، ونحسن مساحات حيواتنا المختلفة بمكيفات هواء تحول ذاك الطقس الخارجي إلى شيء من الآدمية.

لم يساهم هو في تعريف ماذا يعني بخارج السور، ولكثرة ما كان الطقس ساخنا كجهنم لم نتمسك بالسؤال أو بأي شيء آخر محيط بنا، فقط كوب من أي سائل مبرد حتى يطفئ لهيب هذا الصيف الجهنمي في كل العالم، لم يكن هو سعيداً بحديث الأصدقاء المتذمرين من حرارة الصيف، فهو القادم من الخليج كما بعضنا الذي لا بدّ أن ينظر ببعض الاستغراب منهم جميعا عرباً وعجماً، بيضاً وصفراً وبعض السمر، من هذا التذمر، فقد كان هذا الجهنم نصيب أهل الخليج لسنين طويلة، وكان الآخرون ينشرون صور المرح والفرح في حضن الموج البارد، وفجأة أصبحنا جميعا سواسية في حضن غيظ صيف جهنم!!!

Ad

عاد هو للحديث عن السور من هم خارجه وآخرون داخله والجميع يعيش السؤال «عن أي سور يتحدث هو؟»، فهناك كثير من الأسوار أو ربما لكل امرئ سوره أو حتى جداره، بعد بعض الضحك والمزح وكثير من الأسئلة المثلجة بدأ هو بتفسير كيف أنه خارج السور، فقال إن سنوات مرت وهو عازل نفسه خوفا من «كورونا» أو تحت تلك الإجراءات التعسفية التي فرضتها حكومات الكون، وبعدها فتح الكون أبوابه تدريجيا ثم فتحها على مصراعيها.

حتى الآن لم يفهم كثيرون منا ماذا يريد هذا الفيلسوف الكاتب، قال إن الأسوار كانت هنا قبل «كورونا» حتى لا نحمل الجائحة مصائب فوق ما فعلت بنا من كوارث، وأكثرها ألماً فقدان من نحب دون أن نملك حتى وداعهم، رحلوا في أكياس سوداء في حين أكفاننا بيضاء!!!

قال إن الأسوار كانت هناك معنا، وربما بداخلنا حتى كشفتها تلك اللحظة التي قيل لنا فيها إن علينا أن ننعزل عن كل الخارج، وأن نبقى داخل السور، ربما هو سور البيت أو تلك الشقة المتواضعة أو الجحر في حي الفقراء أو حتى سور النفس الداخلي بنا، ذاك الذي نحمله أينما رحلنا وارتحلنا، ذاك الذي لا يراه أحد لكنه يحمينا أو يعزلنا عن الآخرين، وليسوا جميعا أعداء أو مغرضين أو فضوليين، بل كثيرا ما يكونون أحبة!!!

كيف تخلق سوراً بينك وبين من تحب؟ سأله الحاضرون أو ربما المحاور في تلك المحاضرة الخاصة جداً، فكان رده: «نحن نخلق الأسوار ونحن نزيلها»، وحمل رواياته ولوحاً بيده مودعاً الحضور وهو في طريقه نحو باب الخروج عندما استوقفه أحدهم أو ربما إحداهن التي امتلكت الجرأة لتقول له: ليس من حقك الرحيل دون أن تعطي تفسيراً أوضح لتعبير أن تكون خارج السور أو حتى أن تكون داخله.

لم يكترث هو لكل الذين استوقفوه، لكن سؤالها وطريقتها المختلفين دفعاه للعودة ليس في ذلك احترام أو تودد لها إنما لكونها استفزته بجرأة لم يعهدها هو الذي كبر على صور لنساء يحبهن جداً ابتداء من أمه حتى شقيقاته وصديقاته، ولكن في كل الظروف كنّ في رأيه أكثر ضعفاً واستكانة من أن يطرحن الأسئلة الحادة أو أن يواجهن رجلاً مثله بكل ما حققه من شهرة.

وقف فجأة، وقال موجهاً نظراته الثاقبة نحوها هي، بل ربما كل جوارحه «أنا خارج سور كل البشر»، توقف ربما لأخذ نفس أو انتقاء الكلمات أو ربما حتى لا تفهمه بشكل مغلوط «قبل كورونا كان هناك كثيرون خارج سور مجتمعاتهم الصغيرة أو حتى الواسعة، وكان آخرون ينعتونهم بكل الصفات منها انطوائي أو مغرور أو معقد وبعد كورونا أصبح الأمر المعتاد أن نكون جزراً».

هي المراهقة في الفكر لا في العمر لم يعجبها أو لم تكتف بالرد، فاستوقفته قبل أن يتسرب من اللحظة التي كانت: «ولكن كثيراً من الكتاب والمفكرين هم خارج أطر بيئتهم قبل كورونا وبعدها ومنذ المعلقات؟»، وأنهت جملتها بنصف ابتسامة خبيثة، رد هو الابتسامة بمثلها أو ربما بكلها لا نصفها، وأنهى الحوار «أنا خارج السور»!!

* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.