عطفاً على مقالي المنشور على هذه الصفحة أمس تحت عنوان «العدوان على الفصل بين السلطات واستقلال القضاء في تنظيمه المقترح»، الذي حددت فيه المفهوم الصحيح للفصل بين السلطات، بأن تنفرد كل سلطة بوظيفتها التي يحملها مسماها، وليست سلطات تتصارع وتتناحر على مزيد من الاختصاصات والصلاحيات، وقد حدد الدستور وظيفة كل سلطة من السلطات واختصاصاتها تحديداً قاطعاً لا لبس فيه أو إبهام أو غموض، وحظر نزول أي سلطة عن اختصاصها المنصوص عليه في الدستور.
ولهذا فإن الاقتراح بقانون لتنظيم القضاء يكون مخالفاً لمبدأ الفصل بين السلطات المنصوص عليه في المواد (50- 53) من الدستور، ولأحكام الدستور بإقحام القضاء في الشؤون المالية والإدارية، وهي شؤون بالغة التشعب والتعقيد، يقوم بها الجهاز الإداري والمالي للدولة بكل وزاراته ومصالحه وهيئاته العامة، على مدى عقود من الزمن، وقد اكتسب فيها خبرة زمنية ونوعية طويلة، سوف تستعصي على رجال القضاء، ونتولى في هذا المقال بيان المخالفات الدستورية للمواد (139- 156) من الفصل الخاص بالسلطة التنفيذية في الباب الرابع من الدستور، ونتبعه بسائر المخالفات الدستورية في مقال قادم بإذن الله.
الشؤون المالية
وقد عهد الدستور بالشؤون المالية على مستوى الدولة، بسلطاتها كافة، للسلطة التنفيذية، في الفصل الخاص بها، فأفرد الفرع الثاني منه للشؤون المالية، وألزم الحكومة فيه بتحصيل الإيرادات العامة وإجراءات صرفها، مادة (135) وعقد القروض العامة، مادة (136)، وحفظ أملاك الدولة وإدارتها، مادة (138)، وألزم السلطة التنفيذية كذلك بإعداد مشروع الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها، مادة (140)، وحظر عليها كل مصروف غير وارد في الميزانية أو زائد على تقديراتها، أو نقل أي مبلغ من باب إلى آخر إلا بقانون، مادة (146)، ونص على أنه لا يجوز تجاوز الحد الأقصى لتقديرات الإنفاق الواردة في قانون الميزانية أو القوانين المعدلة له، مادة (147)، كما ألزم السلطة التنفيذية بتقديم الحساب الختامي للإدارة المالية للدولة إلى مجلس الأمة، خلال الأشهر الأربعة التالية لانتهاء السنة المالية للنظر في إقراره، مادة (149)، كما ألزم الحكومة بتقديم بيان عن الحالة المالية للدولة مرة على الأقل في خلال كل دور من أدوار انعقاد مجلس الأمة العادية، مادة (150).
ويقوم ديوان المحاسبة بمعاونة الحكومة والمجلس في رقابة تحصيل إيرادات الدولة وإنفاق مصروفاتها في حدود الميزانية، مادة (151)، كما ورد تنظيم شؤون المرتبات والمعاشات والتعويضات والإعانات والمكافآت التي تتقرر على خزانة الدولة في المادة (155) من الفصل الخامس الخاص بالسلطة التنفيذية.
فالخطاب في كل هذه النصوص الدستورية موجه إلى السلطة التنفيذية، وقد ورد في الفصل الخاص بها، حتى لو كان الدستور يتطلب في تنظيمها أو إقرارها صدور قانون، أو تظل الأعمال- محل هذه النصوص– من أعمال السلطة التننفيذية.
وانطلاقاً من هذه النصوص فإن الاقتراح بقانون بتنظيم القضاء، يكون قصياً عن الجادة عصياً على التقبل لمخالفته الاختصاصات التي حددها الدستور للسلطة التنفيذية، والتي لم يجز لها النزول عنها، في المادة (50) من الدستور، وبمفهوم الموافقة لهذا الحكم فإنه لا يجوز لأي سلطة من السلطات أن تجمع بين وظيفتها الأصلية ووظيفة سلطة أخرى، لذلك يكون الاقتراح بقانون قد وقع في مخالفة النصوص الدستورية التالية:
1- ما ينص عليه الاقتراح بقانون في المادة (76) من أن «يكون للسلطة القضائية ميزانية عامة مستقلة»، لمخالفة هذه المادة للدستور فيما نصت عليه المادة (156) منه من أن «يضع القانون الأحكام الخاصة بميزانيات المؤسسات والهيئات المحلية ذات الشخصية المعنوية العامة وبحساباتها الختامية». فمناط إنشاء ميزانية عامة مستقلة، وفقاً لهذا النص، أن تكون للسلطة القضائية شخصية قانونية معنوية عامة، وقد خلا الدستور من أي نص يقرر الشخصية القانونية للسلطة القضائية، فضلاً عن أنها ليست مؤسسة أو هيئة محلية، وفضلاً عن مخالفة مادة الاقتراح للمبادئ القانونية العامة التي تربط بين الميزانية المستقلة والذمة المالية المستقلة، وهما لا يكونان إلا لشخصية قانونية هي بسلطاتها الثلاث الدولة والهيئات والمؤسسات العامة، وتتمتع بشخصية قانونية مستقلة، وبميزانية مستقلة، وتستظل في ذلك بمظلة المادتين (148) و(156) من الدستور.
2- ما ينص عليه الاقتراح بقانون في هذه المادة أيضاً من أن «السنة المالية الأولى للميزانية تبدأ من تاريخ العمل بالقانون»، بما يخالف مبدأ وحدة الميزانية السنوية الشاملة لإيرادات الدولة ومصروفاتها المنصوص عليها في المادة (140) من الدستور، وما يستتبعه ذلك من وحدة السنة المالية للدولة المنصوص عليها في المادة (139) من الدستور، حيث تنص هذه المادة على أن تحدد السنة المالية بقانون، فالسنة المالية للدولة لا تتجزأ.
3- ما تنص عليه المادة (76) سالفة الذكر من الاقتراح بقانون من أنه لا يصرف من الاعتمادات الخاصة بالسلطة القضائية إلا بإذن من رئيس المجلس الأعلى للقضاء أو من ينوب عنه في ذلك، لمخالفة هذا النص لوحدة الإدارة المالية للدولة، وهو التعبير الذي استخدمه الدستور في المادة (149)، بما يستفاد منه لهذه الوحدة في الإدارة المالية للدولة في نطاق السلطات الثلاث، التي تتقاسم شؤون الحكم على مستوى الدولة.
4- كما خالفت المادة (76) سالفة الذكر من الاقتراح بقانون الدستور، فيما نصت عليه هذه المادة من قيام الأمانة العامة للمجلس الأعلى للقضاء بإعداد الحساب الختامي لميزانية القضاء، لمخالفتها لأحكام المادة (149) من الدستور، في حين ألزمت به الدولة ممثلة في السلطة التنفيذية، بتقديم الحساب الختامي للإدارة المالية للدولة إلى مجلس الأمة، وعلى مستوى الدولة بسلطاتها كافة، وهو خطاب موجه إلى السلطة التنفيذية، وقد ورد في الفصل الخاص بها.
5- ويؤخذ كذلك على الاقتراح بقانون في مجمل الشؤون المالية الخاصة بالسلطة القضائية مخالفة أحكام المادة (151) من الدستور بحرمان مرفق العدل من المعاونة التي يقدمها ديوان المحاسبة إلى الحكومة ومجلس الأمة في رقابة تحصيل إيرادات وإنفاق مصروفات هذا المرفق، وما يقدمه الديوان من تقرير سنوي عن أعماله وملاحظاته إلى الحكومة والمجلس، وفقا لأحكام هذه المادة.
وهو ما يعصم مرفق العدل من أي محاسبة عن المخالفات المالية التي تقع في مرفق العدل من خلال الرقابة المالية التي يبسطها ديوان المحاسبة على مرافق الدولة المختلفة، ومن الخضوع للرقابة البرلمانية بأدواتها المختلفة من سؤال أو استجواب أو تحقيق برلماني، تذرعاً باستقلال القضاء، بما يهدر ركناً من أركان الدولة، حين تكون السلطة القضائية فوق القانون، وبطبيعة الحال سيخلو تقرير ديوان المحاسبة من أي ملاحظات على أداء هذه السلطة، للأعباء الإدارية والمالية لمرفق العدل.
6- كما خالفت المادة (76) المذكورة كذلك ما ينص عليه الدستور في (150) من إلزام الحكومة تقديم بيان ماليّ إلى مجلس الأمة عن الحالة المالية للدولة مرة على الأقل كل دور انعقاد سنوي من أدوار انعقاد المجلس العادية، وقد أصبح جزءاً من هذه الحالة، البيان المتعلق بمرفق العدل، حيث وزارة المالية بعيدة عن هذا الأمر كله بموجب الاقتراح بقانون سالف الذكر.
ولا قياس على مجلس الأمة، لأنه يستند في صلاحياته واختصاصاته في الشؤون الخاصة بإدارته المرفقية الإدارية والمالية، إلى التفويض المنصوص عليه في المادة (117) من الدستور، التي فوضت المجلس في كل ما ورد في الدستور من اختصاصات. وغنيّ عن البيان أن تعطيل الاقتراح بقانون بتنظيم القضاء، للنصوص الدستورية السايقة، هو مخالفة لهذه النصوص، ولا تصلح المادة (76) من الاقتراح المذكور أن تكون بديلاً لهذه النصوص الدستورية لأنه لا يجوز للقانون أن يعدل من نصوص الدستور بتعطيلها أو الأعفاء من تنفيذها لأن الدستور أسمى مرتبة من القانون.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.