هناك قولان صينيان مأثوران عن كاشغر: «من دون زيارة إقليم شينجيانغ، لن تعلم كم هي الصين كبيرة، وإذا لم تزُر كاشغر، فلن تعرف كم هي شينجيانغ جميلة»... و«أجمل نساء الصين تجدهن في كاشغر».
منذ أن تطأ قدماك مطار مدينة كاشغر في إقليم شينجيانغ الذاتي الحكم، شمال غرب الصين، حيث تعيش أقلية الإيغور المسلمة، تشعر بشيء مختلف، خصوصاً إذا كنت قادماً إليها من بكين، فاللغة الإيغورية، التي تُكتب بالأحرف العربية والمتأثرة الى حد كبير بالتركية، وكذلك بالفارسية، والمعتمدة الى جانب اللغة الصينية على جميع اللافتات الرسمية، تُدخلك في جو من الألفة.
وفي التقدير، أن أي عربي يزور مدينة كاشغر، التي تسمّى كذلك كاشي، ستكون رحلته إليها عبارة عن استكشاف ممتع ومتدرج لهذه المشتركات، من أصغر طبق طعام محلي الى أكثر رقصة رشاقة.
مدينة لا تنام
كاشغر التي يعود تاريخها إلى ما قبل ألفين ومئة سنة تقريبا، والملقّبة بـ «الياقوتة المشرقة لطريق الحرير»، مدينة لا تنام، فالشمس تغرب فيها عند الساعة الحادية عشرة ليلاً، وعندها ينطلق مهرجان السهر والتسوق في الأسواق الشعبية للمدينة القديمة، الغنية بالتاريخ منذ أن كانت كاشغر التي تربط المناطق الجنوبية والشمالية لطريق الحرير القديم محطة للقوافل ومركزا تجاريا وحضاريا مزدهراً.
الحي القديم يتجدد
قبل سنوات قليلة، كانت المنازل في الحي القديم مصنوعة من الطين والطوب، وتعاني سوء الخدمات الأساسية، واليوم بعد انتهاء مشروع التجديد الذي أطلق عام 2010 بميزانية وصلت الى 7 مليارات يوان (نحو مليار دولار)، تحوّل الحي الى قِبلة للسياح من الداخل الصيني والخارج.
في متحف أقيم خصيصا للاحتفاء باستكمال مشروع التجديد وإعادة الإعمار، شدد القيّمون على المتحف وكذلك مسؤولون محليون خلال جولة لـ «الجريدة» برفقة وفد من وسائل إعلام كويتية، على ما يشكله هذا المشروع من أهمية، خصوصاً أن المنطقة تقع على صفائح متحركة، مما عرّضها للزلازل بشكل مستمر، حيث شهد سكان المدينة الذين تجاوز سنّهم الـ 50 عاماً، نحو 12 زلزالا على الأقل، وهو ما يتطلب في الحد الأدنى، تشييد أبنية مقاومة للزلازل.
كما شددوا أيضاً على كيفية تصميم المشروع بطريقة تحافظ على الهوية المعمارية والثقافية للمدينة القديمة، وعلى الفوائد الاقتصادية التي تحققت، حيث حوّل سكان الحي منازلهم الى دور أرضي للتجارة، خصوصاً لمحالّ بيع التحف والتذكارات والأزياء التقليدية وتقديم الخدمات السياحية ودور علوي للسكن.
ويبدو أن هذا الحرص نابع من الحاجة الى دحض تقارير معظمها غربية، وصفت مشروع إعادة الإعمار على أنه تدمير منهجي للتراث الإيغوري.
مقصد سياحي وطني
ولم يكن صعبا أن يلمس الوفد الزائر مدى التأثير الذي أحدثه مشروع التجديد. ففي عام 2015، تم اختيار كاشغر مقصدا سياحيا وطنيا، يؤمّه ملايين الصينيين، وكذلك الزوار من مختلف أنحاء العالم. وقد تحولت المدينة القديمة الى بازار شعبي وسياحي كبير، غني بالألوان والنكهات والتاريخ يشعرك بأن طريق الحرير القديم، حيث تمازجت الحضارات وازدهرت التجارات، لا يزال حياً.
يستطيع السائح أخذ جولة داخل السوق المترامي الأطراف، والذي يشبه المتاهة، بسبب تداخل شوارعه وأزقته عبر حافلة صغيرة مفتوحة تتسع لنحو 10 أشخاص. كما يمكن الحصول على مرشد سياحي للاطلاع على أبرز معالم المدينة وعادات سكانها.
ويتميز البازار بتشكيلة متنوعة من المنتجات المحلية والحرف اليدوية والمنسوجات التقليدية. كما يمكن للزوار شراء السجاد الحريري الفاخر، والملابس التقليدية، والمجوهرات، والأواني الخزفية الجميلة، والصابون الطبيعي والعطور والبخور. ويمكنهم كذلك تذوق المأكولات التقليدية والمحلية في المطاعم والمقاهي المنتشرة حول البازار. وتُعتبر مأكولات شينيجيانغ مزيجًا لذيذًا من المأكولات الصينية والتركية والفارسية، ونكهاتها قريبة من النكهات العربية.
مسجد عيد كاه التاريخي
على أطراف الحي القديم يقع مسجد عيد كاه التاريخي (المسجد الأصفر)، بساحته الكبيرة التي تشكّل قلب كاشغر النابض، هناك التقى الوفد الكويتي إمام المسجد الشيخ عباس مماتي، واستمع منه الى عرض عن أوضاع المسلمين في المدينة.
وخلال جولة على المسجد التاريخي، نفى مماتي وجود أي ترهيب للمسلمين في المدينة أو في شينجيانغ بشكل عام، داعياً «من يزعمون وضع المسلمين الإيغور في سجن كبير للقدوم إلى شينجيانغ ليروا بأنفسهم الحياة الكريمة التي يعيشها المسلمون وجميع الديانات والمعتقدات الأخرى»، مشدّدا على أنه «لا خوف ولا ترهيب يُمارس ضد أي مسلم، وأنا وبعض الأئمة أدّينا فريضة الحج في مكة المكرّمة هذا العام».
وأضاف مماتي: «كثيرٌ من المسلمين في شينجيانغ، إضافة إلى باكستانيين وطاجيك وعرب، يأتون الى المسجد لأداء صلواتهم اليومية، خصوصاً في أيام الجمعة وخلال عيدَي الأضحى والفطر».
وقال مماتي إن «مساحة مسجد عيد كاه 16800 متر مربع، ويتكون من 4 أجزاء: المئذنة والحرم، ومكتبة، وقاعة الصلاة التي تبلغ مساحتها 400 متر مربع وتتسع لـ 400 مصلٍ».
جديرٌ ذكره أن تاريخ مسجد عيد كاه يعود إلى ما قبل 500 سنة (بُني عام 1442 م). وفي القديم كان المسجد مكاناً مهماً لنشر ثقافة الإسلام وتدريب الأئمة، وتخرّج فيه كثير من رجال الدين والعلماء الكبار.
ويعتبر مسجد عيد كاه الأكبر من نوعه في الصين، ويحمل لقب «مكة الصغرى»، كما يشكل نموذجاً بارزاً لفن العمارة التقليدي لقومية الإيغور. و«عيد كاه» كلمة مركبة من العربية والفارسية، وتحمل معنى «مكان اجتماع في الأعياد».
التنوع العرقي
ورغم أن الطابع الإيغوري يطغى على المدينة القديمة، فإن كاشغر هي مدينة متنوعة ومتعددة الأعراق. والكثير من سكان المدينة ومسؤوليها المحليين من قومية الهان، إضافة الى تجمعات سكانية صغيرة من الطاجيك، والهوي، والقرغيز، والأوزبك، والكازاخ، والمغول.
ويعيش في مدينة كاشغر نحو 5.064 ملايين نسمة، أما عدد سكان المقاطعة (ولاية) كاشغر فيبلغ نحو 4.499 ملايين وفقًا لتعداد عام 2015.
وبحسب دراسة علمية نشرتها دار نشر روتليدج العريقة في نشر الأبحاث العلمية عام 2012، تحت عنوان «من جنوب الصين إلى بحر قزوين» تتجاوز نسبة الإيغور في كاشغر الـ 89 بالمئة بقليل، فيما تصل نسبة الهان الى نحو 9 بالمئة.
إحدى نقاط «الحزام والطريق»
ولا تقتصر الدورة الاقتصادية في كاشغر على السياحة التي تعدّ رافداً واحداً من روافد التنمية. فباعتبارها نقطة ارتكاز مهمة للمنطقة الأساسية للحزام الاقتصادي لطريق الحرير ونقطة مهمة فيما يعرف الممر الجنوبي، تتمتع منطقة كاشغر بموقع فريد يمتد إلى 8 دول ويربط قارتَي أوروبا وآسيا بطريق واحد، كما تتميز بالتكامل الاقتصادي مع الدول المجاورة لها، وهذا ما يجعلها بوابة للتجارة الأوراسية.
وكان نواب منطقة كاشغر قد اقترحوا اختيار المحطة الشمالية لكاشغر كمحطة انطلاق وهمزة وصل للسكك الحديدية بين الصين وقرغيزستان وأوزبكستان، من أجل إرساء أساس لبناء هذه السكك الحديدية في المرحلة القادمة، وتشغيل القطار بين كاشغر وآسيا الوسطى بشكل منتظم.
حلّ أزمة المياه
وفي محطة أخرى من جولة الوفد الكويتي في كاشغر، زارت «الجريدة» محطة المياه الرئيسية محافظة جياشي التابعة لمقاطعة (ولاية) كاشغر، والتي تقوم بالتحكم في مشروع كبير إقامته الحكومة لحلّ أزمة المياه المزمنة في هذه المنطقة التي يضربها الجفاف، ولطالما عانى سكانها ندرة المياه وعدم توافر المياه الصالحة للاستخدام.
وأولت الحكومة المركزية وكذلك الحزب الشيوعي الصيني دائماً أهمية كبيرة لسلامة مياه الشرب في جياشي، وقامت السلطات باستثمار 145 مليون يوان في الوقاية من الأمراض ومعالجة المياه، إضافة الى استثمار 1.749 مليار يوان أخرى لبناء مشروع سلامة مياه الشرب في المناطق الحضرية والريفية بالمقاطعة، وهو ما وفّر حلاً شاملاً وفعالاً لمشكلة المياه في المحافظة.
ويعتمد المشروع على شبكة أنابيب يصل طولها الى نحو 400 كيلومتر ومضخات لسحب وجر المياه من الأنهار الجليدية على بعد مئات الكيلومترات وإيصالها الى المناطق التي تحتاج اليها. واستعرض جيا تشونغهو، (مدير المحطة الذي رافق الوفد الكويتي)، محطات تاريخية في أزمة المياه التي عانتها المنطقة، وكيف كان السكان يعانون يومياً للحصول على المياه، وصولاً الى بناء واستكمال المشروع الذي بات الآن يعمل بكل طاقته. وكان لا بدّ من الإشارة هنا من قبل الوفد الكويتي الى الحلول المبتكرة التي قامت الحكومة الكويتية منذ نشوء الدولة، باعتمادها لجمع وتخزين المياه وتحلية مياه البحر وغيرها من المشاريع الأخرى لمعالجة ندرة المياه.
وقال جيا إن هناك ثقة تامة بأن مشروع المياه يدعم التنمية ويساعد في التطوير العالي الجودة للزراعات في مقاطعة كاشغر. وتضم محافظة جياشي 13 بلدة و325 قرية (مجتمعات) يبلغ عدد سكانها 460 نسمة ألف، 97 بالمئة منهم من الأقليات العرقية.
قرية السعادة
وفي جياشي، قامت عائلة صينية مسلمة باستضافة الوفد الكويتي في منزلها، الذي يقع في قلب مساكن نموذجية أقامتها الحكومة في قرية أطلق عليها اسم «السعادة»، وتضم منازل سكنية وأماكن ترفيهية وغيرها من التسهيلات والخدمات التي تسهم في استقرار السكان وتحسين نوعية وجودة حياتهم.
وتعرّف الوفد على ابنة العائلة المستضيفة، وتدعى فاطمة، وهي تحلم بأن تحترف كرة القدم. في المركز الترفيهي بقرية السعادة، استمع الوفد الى عزف حي للموسيقى المحلية القريبة جداً الى الموسيقى الشرقية، وشاهد رقصات قدّمها سكان محليون، وكان لا بدّ من مأدبة عامرة بالمنتجات الزراعية للمحافظة، خصوصا البطيخ والشمام والمكسّرات على أنواعها، إضافة الى رغيف الخبز التقليدي الذي يعدّ أحد رموز شينجيانغ.
المسؤولة المتخفية
خلال جولة الوفد الكويتي في مدينة كاشغر التي استمرت 3 أيام، رافق الوفد فريق محلي مكون من أكثر من 5 أشخاص، اهتم بالإجابة عن أسئلة الإعلاميين والرد على جميع الاستفسارات والمساعدة على تلبية جميع المتطلبات، بل وشارك أعضاء الوفد في مساعدتنا على الشراء من السوق الشعبي، حيث تعتبر المساومة على الأسعار نوعاً من طقس التسوق الضروري الذي ينبغي عدم تجنّبه. وكانت بين أعضاء الفريق الصيني سيدة كانت تستمع باهتمام الى الملاحظات حول الخدمات من طعام ووسائل نقل، على سبيل المثال عدم توافر خدمة إيجار السيارات التي تعتبر أساسية للسائح الذي يرغب في استكشاف المنطقة على طريقته. ولدى مغادرة كاشغر في ختام الجولة بالحافلة الى المطار، التقطت هذه السيدة الميكرفون لتقول إنها لم ترغب في التعريف عن نفسها مع بداية الرحلة، لتترك للوفد هامشاً من الحركة بلا قيود رسمية، ثم تذكر اسمها (لم ترغب في نشره)، وتعرّف عن نفسها بأنها مسؤولة كبيرة في إدارة إقليم شينجيانغ الذاتي الحكم (حكومة محلية).وقد أثارت هذه الخطوة انطباعاً جيداً لدى جميع أعضاء الوفد، وفي أجواء كاشغر السحرية كان لا بدّ من استعادة القصص العربية التاريخية عن تخفّي الخلفاء والأمراء بأزياء العامة للاطلاع على الأحوال الحقيقية للرعية!