يحق لنا أن نفخر بوجود أديب وصحافي عربي من أصول لبنانية في الأكاديمية الفرنسية، التي أسسها الكاردينال الفرنسي رشيليو بباريس عام 1634، واتخذت طابعاً رسمياً اعتباراً من عام 1635، حيث تم انتخاب أمين معلوف في 23 يونيو، 2011 خلافاً للمفكر الفرنسي كلود ليفي شتراوس الذي استقبل في الأكاديمية عام 1974، وتوفي عام 2009، وليحتل الكاتب معلوف بدوره المقعد 29 في هذه الأكاديمية التي تم استقباله فيها بتاريخ 14 يونيو 2012.
ولعل القارئ الكريم على معرفة بغزارة كتب الأكاديمي معلوف وتنوّع مواضيعها، وسأذكر ما أراه أهمها مع تاريخ صدورها في فرنسا، علماً أن عدداً كبيراً منها تُرجم لعدة لغات ومنها بالطبع اللغة العربية: ليون الإفريقي (1986)، وسمرقند (1988)، وصخرة طانيوس (1993) وحازت هذه الراوية عام صدورها جائزة غونكور المشهورة التي تُعد من أهم الجوائز الأدبية في فرنسا، والهويات القاتلة (2016)، وغرق الحضارات (2019)، وله مسرحيات شعرية، وكتب تاريخية وسياسية من أهمها: الحروب الصليبية كما رآها العرب (1983)، واختلال العالم (2009).
أما ما أريد أن أتحدث عنه في هذا المقال، فهو كتابه: «مقعد على ضفاف السين، أربعة قرون من تاريخ فرنسا» الذي صدر عام 2016.
لماذا اختار معلوف هذا العنوان؟ نجد الجواب على الغلاف الخلفي للكتاب، فمعلوف يروي سير وأعمال 18 شخصية تلاحقوا على المقعد 29 في الأكاديمية الفرنسية منذ عام 1634، لنصل إلى وصوله هو شخصياً لهذا المقعد، ونكون بذلك قد استعرضنا أربعة قرون من تاريخ فرنسا.
وبدأ عرض الروائي معلوف بسيرة بيار باردان، الذي تم انتخابه في مارس 1634، والطريف أن هذا الأكاديمي غرق في نهر السين بعد عام وشهرين من انتخابه، وكان بذلك أول من مات من الخالدين، لأنه يطلق عادة على أعضاء الأكاديمية الفرنسية وصف «الخالدون» لأنهم يبقون أعضاء في الأكاديمية ما داموا على قيد الحياة.
ويتعرف القارئ وهو يقرأ هذا الكتاب، على أسماء عدد من الأدباء والمفكرين والعلماء والسياسيين الذين شغلوا المقعد 29 في الأكاديمية، نذكر منهم قصة الأكاديمي الفرنسي الذي تم انتخابه عام 1688، وعُرف بلقب «مفاوض الملوك» ونقصد به فرانسوا ديكاليريس، ويشير الأكاديمي معلوف إلى أحد أهم كتبه وهو بعنوان: «كيفية التفاوض مع الحكام»، ويقصد بالطبع الأمراء والملوك في زمنه، وتم التركز فيه على الجوانب الدبلوماسية والتفاوضية في العلاقات بين الممالك الأوروبية في القرن السابع عشر، ويلفت معلوف النظر إلى اهتمام عدد من السياسيين قديما بهذا الكتاب، فنجد من بينهم توماس جيفرسون، أحد المحررين الرئيسيين لإعلان الاستقلال الأميركي لعام 1776، وثالث رئيس للولايات المتحدة، كما حظي الكتاب أيضاً، وفي القرن الفائت، باهتمام عدد من السياسيين والموظفين والمفكرين البريطانيين والأميركيين، وتمت ترجمته للغة الإنكليزية.
ونتعرف أيضاً على من خلف «مفاوض الملوك» في شخص أندريه هيركول دي فلوري، الذي تم انتخابه في الأكاديمية الفرنسية عام 1717 ليحتل بدوره المقعد 29، ومن المفيد التذكير بشهادة الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان، الذي توفي عام 2020، والذي شغل المقعد 16 في الأكاديمية الفرنسية حيث تم انتخابه عام 2003، فقد نقل الأكاديمي معلوف عن هذا الرئيس السابق قوله بأن فرنسا عرفت أفضل رئيس وزراء في تاريخها بشخص دي فلوري في سنوات 1726-1743، حيث عُرف هذا الرئيس بصرامته، وسعيه لتحسين حسابات المملكة، والمهم بأنه لم ينتفع مادياً من منصبه.
وجاء الدور على جوزيف ميشو، الذي يشاركه المؤرخ معلوف الاهتمام بتاريخ الحروب الصليبية، حيث انتخب ميشو عضواً في الأكاديمية الفرنسية عام 1813، واهتم بتلك الحروب وكتب عنها سبعة مجلدات صدرت ما بين أعوام 1812-1822.
ومن بين الذين شغلوا المقعد 29 في الأكاديمية الفرنسية المفكر والفيلسوف أرنست رينان، الذي نشر عام 1852 أطروحته عن «ابن رشد والرشدية»، وقد نُظر إلى هذه الأطروحة كمرجع أساس لدارسة فكر ابن رشد الذي انتشر في أوروبا أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، ومن كتب رينان، كتاب «الإسلام والعلم» وهو في الأصل محاضرة ألقاها في جامعة السوربون عام 1883، وكان لهذا الكتاب أصداء كثيرة، وتُحدّثُنا كتب التاريخ عن مناظرة شهيرة بينه وبين جمال الدين الأفغاني عام 1883 بخصوص علاقة الإسلام بالعلم، حين كان الأفغاني موجوداً زمانها في فرنسا، ونذكر أيضاًً إصداره لجريدة «العروة الوثقى» مع محمد عبده عام 1884، والتي استمرت في الصدور لأشهر فقط.
جمع الأكاديمي معلوف في كتابه بين التاريخ والتراجم، مع التذكير بمجريات أيامنا المعاصرة، وأضاف لوناً آخر من ألوان السير الذاتية التي جمعت بين الماضي والحاضر مع لمسة شخصية رائعة.
* أكاديمي وكاتب سوري مقيم بفرنسا.