كل إنسان معرض للرحيل، فالرحيل مر، وصعب، وفي بعض الحالات، يعدّ شراً لا بد منه، وقد يكون هذا الرحيل استقالة من عمل، أو هجرة إلى بلد آخر، أو ترك علاقة سامة، أو الرحيل من هذه الدنيا.
وتأثير الرحيل يكون علينا وعلى من حولنا، أتذكر كلمات والدتي رحمها الله عن والدي «اللي يروح قبلك، يحرّك»، فعلاً الرحيل جمرة لا يشعر بها إلا من عاشها، تقول ريم بسيوني في روايتها «القطائع»: «الحزن للعظماء، والهم الثقيل لا تحمله سوى القلوب الصلبة، عندما يُثقل البؤس قلبك اعرف أنك ارتقيت».
فهذه الحياة تلهي وتغدو، ثم تُذكرنا أننا عاجزون مهما بلغت قوتنا، ماذا يفعل الحزن بنا؟ تضيق المدينة بنا، ويزيد لون الحزن في السماء، فتصبح شاحبة في نهار مشرق، وتضيق بنا الشوارع والأماكن، وقشعريرة كريهة تربط الجسد، وعقدة الجبين تلتصق على جباهنا وتشتد قلوبنا فتنعصر من شدة الألم والحسرة، لم أفهم يوماً معنى الألم؟ ذلك الألم الذي يخطف بياض الجلد ويجعله شاحباً، يسرق الألم منا كل القوة والشراسة التي تحلينا بها يوماً.
التعلق بالشيء يعني أننا متمسكون بالماضي، والتخلي عنه يعنى أن هناك مستقبلاً، فلا يمكننا الانتقال إلى ما هو جديد ما لم نتخل عن الماضي، ويوماً بعد يوم يتغلغل الماضي إلى عالمي بقوة أكبر، فأفتح أدراجي وأوراقي القديمة المبعثرة، وأسمح للماضي بقراءة أفكاري، فأتقوقع في عالم لا أفهمه، شعور غريب يتملك روحي، ومع شعاع كل صباح يتكرر حزني، أحاربه كل صباح، وأستسلم بضعف، فقد حان وقت الهجرة.
نتذكر اللحظات الجميلة والكلمات التي تلامس القلب، وكيف يمكننا التخلي عنها بعد أن اعتدناها وأصبحت جزءاً من حياتنا اليومية... مُرّة هي الحياة، مع خيباتنا وآلامنا وتعلقنا، لا شيء يبقى سوى الذكريات التي تلاحقنا، نبتسم، وندعو لمن ترك هذه الدنيا بالرحمة.
أما الذين آذونا وتركونا فاهجروهم، واعتذر لقلبك على بقائك معهم عندما كان من المفترض رحيلك عنهم، يدخل الناس حياتك، ثم يرحل بعضهم، وبعضهم الآخر يلقنك درس الحياة، وبعضهم يكون نعمة من الله.
وحده الله يعلم وجع القلب الذي لن يفهمه أي طبيب، وبعد الآلام تُحفر نقطة سوداء فينا، لا تعود الحياة كما كانت ولا يعود الأشخاص كما كانوا.
هاجِر... فقد بات الفؤاد غريقاً في شط البحر.