عطفاً على المقالين المنشورين على هذه الصفحة يومي الأحد والاثنين الماضيين واللذين دللنا فيهما على إهدار التنظيم المقترح للقضاء، لمبدأ الفصل بين السلطات جوهر الحكم الديموقراطي وأساس بنيانه، نتناول في هذا المقال ما غاب أيضا عن الفنيين الذين أعدوا هذا المقترح، من إهداره ركنين أساسيين في الحكم الديموقراطي هما:
الركن الأول: تولي الأمير سلطاته بواسطة وزرائه، إعمالا للمادة (55) من الدستور.
ثانيهما: المسؤولية السياسية وهي كذلك جوهر الحكم الديموقراطي، إذ لا يجوز أن يكون هناك جهاز في الدولة لا يخضع للمحاسبة والمساءلة السياسية أمام البرلمان.
أولا: تولي الأمير سلطاته بواسطة وزرائه
حيث تنص المادة (54) من الدستور على أن «الأمير رئيس الدولة، وذاته مصونة لا تمس»، وتنص المادة (55) على أن «يتولى الأمير سلطاته بواسطة وزرائه».
وتتوزع اختصاصات الأمير بين السلطات الثلاث، فللأمير حق اقتراح القوانين وحق التصديق عليها وإصدارها أو ردها، المادتان (65,66)، ويضع الأمير اللوائح اللازمة لتنفيذ القوانين، مادة (72)، ويضع الأمير بمراسيم لوائح الضبط واللوائح اللازمة لترتيب المصالح والإدارات العامة بما لا يتعارض مع القوانين، مادة (73)، ويعين الأمير الموظفين المدنيين والعسكريين والممثلين السياسيين، مادة (74)، وللأمير أن يعفو بمرسوم عن العقوبة أو أن يخففها، مادة (75).
وقد جاء الاقتراح بقانون بتنظيم القضاء مهدراً لهذا المبدأ فيما قرره من تنظيم لمرفق العدل مغيبا فيه دور وزير العدل في ممارسة الأمير سلطاته بواسطة وزرائه، في هذا المرفق، حيث لا يعدو هذا المرفق أن يكون إدارة من الإدارات العامة المخاطبة بأحكام المادة (73) من الدستور ومن ذلك ما يلي:
1 - أداء اليمين القضائية
حيث كان أعضاء المجلس الأعلى يؤدون هذه اليمين أمام صاحب السمو الأمير بحضور وزير العدل، المادة (27)، فأصبح الأمير بهذا النص يمارس سلطة دستورية، بالنسبة إلى رجال القضاء، هو أداء اليمين أمامه بوصفه راعياً لهذه السلطة، باعتبار الأحكام القضائية، التي هي المظهر الوحيد لسيادة الأمة التي تمارسها من خلال السلطة القضائية، والتي تتولاها المحاكم باسم الأمير، طبقا لأحكام المادة (53) من الدستور التي تنص على أن «السلطة القضائية تتولاها المحاكم باسم الأمير»، كما أن أداء سائر القضاة اليمين أمام وزير العدل في النص الحالي هو أداء اعتباري أمام الأمير، والأحكام القضائية تصدر باسمه، فغيب النص المقترح حضور وزير العدل في أدائها بالنسبة إلى أعضاء المجلس الأعلى للقضاء وليس أمام وزير العدل، كما عدل الاقتراح حلف هذه اليمين بالنسبة إلى سائر القضاة لتكون أمام رئيس المجلس الأعلى للقضاء بما يخالف أيضا المادتين (53,55) من الدستور.
2 - الاتصال بأجهزة الدولة كافة
عدل المقترح الحكم الوارد في المادة (18) من القانون الحالي فيما تنص عليه من أنه «للمجلس الأعلى للقضاء أن يطلب من وزارة العدل كل ما يراه لازما من البيانات والأوراق المتعلقة بالموضوعات المعروضة عليه»، وما تنص عليه المادة (76) من التنظيم المقترح من أن المجلس الأعلى للقضاء الاستعانة بأي جهة حكومية لإعداد مشروع الميزانية فضلا عن مخالفتها لأحكام المادة (140) من الدستور، وهو ما بيناه في مقال سابق، قد خالفت أحكام المادة (55) من الدستور.
وتخلو المذكرة الإيضاحية للمقترح المذكور لأي مبرر أو سبب لهذا التعديل سوى ما جاء في صدرها من تأكيد الاقتراح لمبدأ استقلال القضاء، والتنظيم المقترح هو أبعد ما يكون عن تحقيق هذا الهدف، فاستقلال القضاء هو استقلاله بوظيفته القضائية لا بالافتئات على اختصاص سلطة أخرى وسلب ولايتها فيما عهد إليها به الدستور من اختصاصات.
3 - ترتيب المصالح العامة
حيث تنص المادة (73) على أن «يضع الأمير، بمراسيم، لوائح الضبط واللوائح اللازمة لترتيب المصالح والإدارات العامة بما لا يتعارض مع القوانين».
وقد جاء الحكم الوارد في هذه المادة بصيغة عامة ومطلقة، والأصل في الحكم العام أن يسري على عمومه وفي الحكم المطلق أن يجري على إطلاقه فيشمل الإدارات العامة كافة بما في ذلك إدارات المحاكم باعتبارها من الإدارات العامة المعنية بالنص الدستوري.
وإعمالا لأحكام هذه المادة أجاز القانون الحالي الصادر بالمرسوم رقم 23 لسنة 1990 بقرار من وزير العدل بناء على طلب رئيس محكمة التمييز، عقد دوائرها في أي مكان آخر غير مقرها الرئيسي في مدينة الكويت، مادة (4)، كما أجاز بقرار من وزير العدل بناء على طلب رئيس محكمة الاستئناف عقد دوائرها في غير مدينة الكويت (مقرها الرئيسي)، المادة (6).
كما أجاز القانون الحالي لوزير العدل إنشاء محاكم جزئية في كل محافظة من محافظات الكويت يعين مقارها ويحدد دوائرها واختصاصها (المكاني) بناء على طلب رئيس المحكمة الكلية، المادة (8).
كما أجاز القانون الحالي لوزير العدل بقرار منه أن ينشئ– بعد موافقة الجمعية العامة للمحكمة الكلية– دوائر جزائية ويخصها بنظر نوع معين من القضايا، ويبين في ذلك القرار مقر كل دائرة وحدود اختصاصها (المكاني)، المادة (8)، فأسند اختصاص الوزير في هذه الأوامر إلى المجلس الأعلى للقضاء وذلك كله بالمخالفة لأحكام المادتين (53,55) من الدستور.
والواقع أن الأمر لا ينصرف بالنسبة إلى إنشاء المحاكم وتحديد مقارها، في هذه المواد إلى الهيئة القضائية التي تصدر الأحكام، وإلى تحديد قضاة هذه المحاكم أو عددهم، بل إلى توفير المبنى أو المكان لممارسة حقوق دستورية، هي حق التقاضي، المادة (165)، وعلنية الجلسات، المادة (166)، وحراسة المبنى أو المكان، وتزويده بكل ما تتطلبه المحاكمة العادلة المنصفة من توفير كل الإمكانات المادية لإقامة العدل بين الناس، وهو المسؤول عن هذه الأمور، التي لا يمكن التقليل من أهميتها وأثرها على حسن سير العدالة، أمام الرأي العام وأمام منظمات حقوق الإنسان الدولية والإقليمية والمحلية، ومسؤول سياسيا عنها أمام الأمير طبقا لأحكام المادة (58) وأمام البرلمان طبقا لأحكام المادتين (101,102) من الدستور.
وقد وقع الاقتراح بتنظيم القضاء المدرج على جدول أعمال مجلس الأمة بذلك في حومة مخالفة أحكام المادة (73) من الدستور، سالفة الذكر، فضلا عن مخالفته لأحكام المادتين (53,55) من الدستور عندما عهد الاقتراح بقانون هذه الاختصاصات إلى المجلس الأعلى للقضاء.
ولا ينهض لإطلاق سلطة المشرع في هذه الأمور، أن تكون المادة (73) من الدستور، وقد قيدت صلاحيات الأمير بموجب أحكام هذه المادة، بعدم التعارض مع أحكام القوانين، لأن المشرع مخاطب أيضا بأحكام الدستور، وعليه التزام بعدم التعارض مع أحكام الدستور، لسمو الدستور أو القوانين، التي لا يجوز لها مخالفته.
4 - تجاوز الاقتراح للتنظيم الدستوري
وأساس ذلك أن ما تضمنه الاقتراح بقانون بتنظيم القضاء من إنشاء ديوان القضاء دون أن يحدد اختصاص هذا الديوان، اكتفاء بتحديد اختصاصات القضاة الذين ينقلون إلى غياهبه لعدم صلاحيتهم، وغير ذلك من وحدات إدارية منها أمانة عامة للشؤون الإدارية، وأخرى للشؤون المالية، يندب لها أمناء عامون وأمناء مساعدون من رجال القضاء مما ينوء به كاهل الهيئة القضائية، مع ما هو معلوم من أن الدولة تسعى جاهدة الى تكويت القضاء ولايزال عدد القضاة الكويتيين محدوداً لا يكفي لملء دوائر المحاكم على اختلاف أنواعها ودرجاتها، بما يجعل هذه التعديلات، فضلا عن مخالفتها لأحكام المادتين (55 و73) من الدستور قصية عن الجادة عصية على التقبل.
ثانياً: السلطة أساس المسؤولية
ولما كانت المسؤولية والمحاسبة السياسية هي ركن أساسي وجوهري في أنظمة الحكم الديموقراطي في العالم كله، ولا يوجد جهاز من أجهزة الدول الديموقراطية أو مرفق من مرافقها العامة، يخرج من دائرة المحاسبة أو المساءلة السياسية، وحيث تنص المادة (58) من دستور الكويت على أن «رئيس مجلس الوزراء والوزراء مسؤولون أمام الأمير، عن السياسة العامة للدولة، كما يسأل كل وزير أمامه عن أعمال وزارته»، كما تنص المادة (101) من الدستور على أن «كل وزير مسؤول لدى مجلس الأمة عن أعمال وزارته، وإذا قرر المجلس عدم الثقة بأحد الوزراء اعتبر معتزلا للوزارة من تاريخ قرار عدم الثقة...».
فإن إسناد اختصاص وزير العدل في الشؤون الإدارية والمالية الخاصة بمرفق العدل، التي يتولاها الأمير بواسطة وزرائه إلى المجلس الأعلى للقضاء أو رئيسه، في تنظيم القضاء المقترح، يثير شبهة عدم دستورية هذا الاقتراح أيضا لأحكام المادتين (100 و101) من الدستور، لتغيب المحاسبة والمسؤولية السياسية لوزير العدل عن مرفق العدل عندما تصبح إدارة شؤون هذا المرفق الإدارية والمالية للمجلس الأعلى للقضاء، الذي لا يحاسب أو يساءل سياسياً.
وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.