لطالما كانت الاتفاقية التي أبرمت منذ عام من الزمن، والتي سمحت للسفن المحملة بالحبوب بمغادرة موانئ أوكرانيا من دون مواجهة خطر التعرض لهجمات روسية، اتفاقية هشة، وشيئا يشبه العملية الشاذة في حرب غابت عنها بوضوح الجهود الدبلوماسية، لكن هذه الاتفاقية لم تكن أحادية الاتجاه كما يتم تصويرها في معظم الأوقات، فروسيا كانت مستفيدة أيضاً منها، من خلال السماح لسفنها التي تنقل الأغذية والأسمدة بعبور البحر بشكل آمن، وبالتالي، كانت تلك صفقة كلاسيكية.
لكن الصفقة مهددة اليوم بالانتهاء وسط تجدد الهجمات الروسية على المرافئ الأوكرانية على البحر الأسود، وبروز خطر أن تعاني مناطق نائية نقصاً في الأغذية، وإذا كانت تلك الاتفاقية قد انتهت فعلاً، فهذا سيعني خسارة أحد صمامات الأمان التي أسهمت في احتواء الحرب، وانقطاع خط حيوي مد الاقتصاد الأوكراني المدمر بالحياة، إنه أمر مؤسف جداً، لأن رقعة القتال ستتوسع بدلاً أن تكون مسألة شحن الحبوب سبباً لدفع الأطراف للعمل على ممارسة ضغط دولي عاجل على الجانبين لدراسة إمكانية تحقيق وقف لإطلاق النار، ويجب أن يؤمل أنه كان من شأن ذلك أن يليه عملية مفاوضات أوسع نطاقاً.
في الواقع، صحيح أن روسيا كانت أشارت منذ مدة إلى عدم رضاها عن طريقة تنفيذ اتفاقية تأمين شحن الحبوب، مدعية بأن الضمانات التي كانت قد حصلت عليها موسكو، لم يتم احترامها، وأن أوكرانيا قامت باستخدام ممر نقل الحبوب الآمن لما أطلقت عليه روسيا أغراضاً «قتالية»، كما أنه لا يمكننا أن ننفي أن روسيا من خلال «إنهاء العمل بالاتفاقية» تسعى ببساطة إلى استخدام هذا المأزق الذي صنعته كي تحاول إضعاف أثر العقوبات المالية الغربية عليها، بدلاً من دراسة إمكانية تصعيد الحرب، وفي تلك الحالة قد تكون هناك في الأغلب اتفاقية جديدة، يتم التوصل إليها وفق شروط مختلفة، وهكذا يستمر النزاع كما كان عليه الوضع في السابق.
لكن هناك أيضاً مؤشرات بأن الحرب ربما تتجه إلى منعطف يصبح عنده احتمال إجراء محادثات أكبر مما بدت عليه الأمور في السابق، وحتى في ما يبدو أن النزاع عالق حالياً، ومع توقعات البعض بأن يستمر على ما هو عليه اليوم لسنوات مقبلة، فإن ثمة تطورات أيضاً من شأنها أن تجتهد في سبيل تغيير هذا الوضع ربما.
من الجانب الروسي، إن ديناميكية القوة في موسكو لا تزال تبدو غامضة، بعد ما بدا أنه كان تمرداً قامت به قوات المرتزقة التابعة لفاغنر الشهر الماضي، ويبدو الرئيس فلاديمير بوتين وبوضوح أنه لا يزال ممسكاً بمقاليد الأمور، لكن القيادات العسكرية الرفيعة والمؤسسة الدفاعية ربما تتعرض إلى بعض الخضات.
بما يكون زعيم مرتزقة فاغنر يفغيني بريغوزين في المنفى أم لا، مع وجود بعض من قواته على الأقل في دولة بيلاروسيا، لكنهم لن يعودوا للظهور على الجبهات في أوكرانيا، وكان الرئيس بوتين قد أعلن هذا الأسبوع أن بعض جنود الاحتياط قد يكونون عرضة للاستدعاء وصولاً إلى أولئك في سن السبعين، وهذا يعتبر نوعاً من التعبئة التي تم احتسابها بشكل يمنع من احتمالية مواجهتها أي مقاومة.
يواصل المسؤولون الروس تكرار التعبير عن أنهم منفتحون لإجراء المفاوضات، متى ما كان ذلك مناسباً، علماً أنه كانت هناك بعض الاتصالات غير الرسمية التي يمكن نفي حدوثها بين مسؤولين حكوميين أميركيين وروس مخضرمين في الأشهر الأخيرة، كما أنه من المعروف أيضاً أن قادة الاستخبارات الروسية والأميركية يجرون محادثات من وقت لآخر، وهنا لا بد من الإشارة إلى الثغرات التي انفتحت، لو أراد أي من الروس أو الأميركيين استخدامها، وفي هذه الأثناء، يبدو أن الدفاع الروسي عن المناطق التي احتلتها موسكو في أوكرانيا لا يزال صامداً، فهل يا ترى حان الوقت لموسكو أن تدرس إمكانية إنهاء اللعبة والحفاظ على مكاسبها خوفاً من أي خسائر محتملة مستقبلاً؟
وهل أن أوكرانيا تقترب هي الأخرى من نقطة تحول أيضاً؟ عندما قال جو بايدن إن الولايات المتحدة ستقوم بتزويد كييف بالذخيرة العنقودية «لأن الأوكرانيين يعانون من نفاد الذخيرة»، فهل كان ذلك مبالغة لتعزيز موقفه كما كان البعض يدعي؟ أو أن ما قاله، كما يراه آخرون، كان مجرد زلة لسان مقصودة حول أحد أسرار الدولة؟ حتى الآن يبدو موقف كييف فلسفياً بما يتعلق بأسباب عدم إحراز تقدم في هجومها المضاد المنتظر منذ فترة طويلة، وربما لديها بعض الخطوات غير المتوقعة في طور الإعداد، لكن، إذا لم يكن لديها أي شيء، فإلى متى يمكن للموقف الرسمي أن يصمد في ثباته لتحقيق أهدافه؟ أظهر الرئيس فولوديمير زيلينسكي بعض الإحباط غير المعهود، عندما علم أنه لن تدعى أوكرانيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وهناك أيضاً ضرورة النظر إلى مشاعر الأوكرانيين على الأرض. إن المعنويات في أوكرانيا لطالما كانت عالية بشكل مميز، مع تزايد قوة العزيمة الشعبية على المقاومة باستمرار، وبعد كل الضربات الروسية المتتالية، ورغم ذلك يبدو أن فحوى بعض التقارير قد بدأت بأخذ اتجاه أكثر سوداوية من السابق. وإن خسائر الحرب التي تكبدتها أوكرانيا تبقى من أسرار الدولة، لكن حجم الخسائر بسبب الهجوم المضاد كما يمكن الحكم عليها من حركة سيارات الإسعاف التي تنقل المصابين من الجبهة، وعدد القبور الجديدة التي بدت في المقابر، وكلها تشير إلى أنها مرتفعة، وكان إحصاء جديد أعده معهد كييف الدولي لعلم الاجتماع قد كشف أنه من بين كل أربعة من أصل خمسة أوكرانيين يقولون إن صديقاً أو أحد أقربائهم قد قتل أو جرح في هذه الحرب، فحجم الإصابات بدأ بالظهور بشكل أكثر وضوحاً في مناطق لم تمسها المعارك في هذه الحرب بقوة من قبل.
إن أي اقتراح من جهات خارجية بأن الوقت ربما قد حان بالنسبة لأوكرانيا أن تدرس إمكانية بدء المحادثات، يتم التعامل معه برفض قاس من المسؤولين في كييف، استناداً إلى أنه ليس هناك شيء للتفاوض حوله، لأن روسيا لطالما قامت برفض خطة النقاط العشر التي كان وضعها الرئيس زيلينسكي في نوفمبر الماضي، ولأنه، وخصوصاً، لن تقوم أوكرانيا بمبادلة الأرض بالسلام.
حتى الآن، ربما يكون صحيحاً القول، إنه ليس هناك إجماع دولي مؤيد لمثل هذه المفاوضات، مع بقاء الكثير من الزعماء الأجانب والزعماء السابقين من أمثال بوريس جونسون، إضافة إلى الكثير من المهاجرين الأوكرانيين، واقفين وبإصرار إلى جانب الموقف الأوكراني في ما أعلنته عن نيتها أن تستعيد كل الأرض التي سلبتها روسيا، ومن ضمنها شبه جزيرة القرم، وأن تجبر روسيا على دفع التعويضات لأوكرانيا «كي تعيد بناء ما تدمر في الحرب»، وأن ترى مثول الرئيس بوتين أمام العدالة لارتكابه جرائم حرب. ربما سيأتي يوم يتم فيه وقف النزيف، كما يجادلون، ولكن ذلك اليوم لم يأت بعد، والضغط من أجل بدء مفاوضات باكرة من شأنه أن يمنح روسيا أفضلية، ويرسل رسالة بأن المعتدي يمكن أن تتم مكافأته، لذلك على أوكرانيا أن تنتصر، ويجب أن تخسر روسيا.
لكن إن لم يحدث ذلك اليوم، فمتى؟ كم عدد الذين قد تكون أوكرانيا مستعدة لخسارتهم من شعبها، إما في المعارك أو عن طريق هجرة بلادهم؟ هل سيأتي يوم تصبح بعده أوكرانيا بعد خوضها حرباً من أجل بقائها، أقل قدرة على البقاء كدولة ذات سيادة؟ وهل سيأتي يوم يبرد فيه مستوى الدعم الدولي؟ وألم يكن ذلك ما قصده وزير الدفاع البريطاني بين والاس، عندما اقترح أن تظهر أوكرانيا «امتناناً» أكبر، وهو أمر يجب عدم تجاهله، علماً أن دولاً كثيرة أخرى تقوم بالتخلي عن الكثير من إمكاناتها الأمنية لدعم القدرات الأوكرانية؟ وهل على أوكرانيا أن تكون الحكم الوحيد الذي له الكلمة الفصل في التوقيت، وفي احتمال إجراء المحادثات؟ من المفهوم أن يكون هذا هو الموقف الأوكراني: فإن شعب أوكرانيا هو من يعاني ويموت. لكن أوكرانيا لا يمكنها أن تدافع عن نفسها من دون المساعدة العسكرية التي قدمتها الدول الأخرى، فهل ليس لدى تلك الدول كلمة تقولها بشأن متى يحين ذلك الوقت؟ لا بد لي من الملاحظة هنا أنه على الأقل، البعض ممن كانوا في السابق من الداعمين للحرب حتى النهاية، ومن كانوا يودون منح كييف الكلمة الأخيرة في هذا السياق، قد بدأوا أخيراً بتغيير موقفهم، دعماً للمسار الدبلوماسي. إن من يعارضون حتى الآن محاولات وقف الحرب فوراً، يمكنهم أن يجدوا الكثير من الأعذار والأسباب التي تدعو أوكرانيا إلى مواصلة القتال، وفي الوقت نفسه يقومون بلصق بعض المواقف الزائفة لمن يختلفون معهم بالرأي، وأنا لست من بين هؤلاء، على سبيل المثال، ومن الذين يجادلون أن الهزيمة الروسية يجب تفاديها، بسبب تداعيات عدم الاستقرار المحتملة التي قد تنتج من ذلك، أو أن الغرب بصدد خسارة الكثير بسبب عزل روسيا، أو أن أوكرانيا يجب ألا تبحث عن تحقيق العدالة من خلال المحاكم الدولية أو أي محاكم أخرى تقام لتلك الغاية.
ولست أيضاً ممن يعتقدون بأن أوكرانيا كانت تحارب للدفاع عن أوروبا أو عن الحضارة الأوروبية، إن كييف تدافع عن حقها في الوجود كدولة، إن رأيي هو أن هذه المعركة قد تم الفوز بها، وأوكرانيا حالياً مهددة بخسارة المزيد من خلال مواصلتها القتال، مقارنة بما قد تحصل عليه عند الدخول في مسار دبلوماسي تكفله وساطة دولية.
كل ما نراه أن كل جانب يراهن على استسلام الجانب الآخر، لكن من أجل هزيمة روسيا، أوكرانيا بحاجة وبشكل كبير للمزيد من المساعدة من الولايات المتحدة الأميركية إن لم نقل من حلف الأطلسي، ومع بروز الإشارات حول ضعف الكرملين بعد التمرد الذي قادته مرتزقة مجموعة «فاغنر»، لا تزال الخسائر الأوكرانية تتزايد في الميدان، والتهديد بنشوب حرب بحرية واسعة تضاف إلى الحرب البرية التي تشهد جموداً على جبهاتها يتزايد أيضاً، والظرف هو الأفضل حالياً من أجل العمل على وقف العدوان، بغض النظر عن مدى الصعوبة التي تبدو عليها مثل تلك الخطوة من وجهة نظر كييف.
* ماري ديجيفسكي