«ما بين ليلة وضحاها.. ولحظات محفوفة بالمخاطر.. غزوا بلادنا الآمنة في «هجعة الليل».. كان الوقع كبيراً علينا.. انشطر قلبي حينها إلى نصفين.. نصف أدماه الغادرون بوطني الكويت والنصف الآخر تملكه الخوف على أبنائي».

بهذه الكلمات العميقة والموجعة.. بدأت الأم العظيمة مليحة الأنصاري أو كما تحب أن يطلقوا عليها «أم قاسم» حديثها لوكالة الأنباء الكويتية (كونا) وهي تصف الذكرى المريرة للغزو في يوم «الخميس الأسود» الثاني من أغسطس عام 1990 التي تُصادف غداً الأربعاء ذكراها الأليمة الـ33 عندما زحفت القوات العراقية في جنح الليل عبر الحدود إلى دولة الكويت في اعتداء سافر يُنافي كل المواثيق والأعراف الدولية.
حسين المجادي اثناء الغزو
وبرفق الأمهات وحنانهن الذي لا ينضب بدأت «أم قاسم» بسرد اللحظات العصيبة التي مرت عليها وعلى كل أمهات الكويت آنذاك وما حل بها وبأولادها الذين كانت لهم الأب والأم معا وكانوا لها كل شيء في حياتها.

وقالت «لقد سرقوا مني قاسم في أول يوم من أيام الغدر.. كان يعمل مهندساً في شركة النفط وكان مجنداً حينها اذ خرج من المنزل في الساعة الثالثة فجراً لينضم إلى وحدته العسكرية وبعد أسابيع عرفنا أنهم اقتادوه أسيراً ليقبع في سجون النظام العراقي.. لم ير فلذة كبدي النور طيلة أيام الغزو الغاشم الذي امتد سبعة أشهر».
Ad


وأضافت «كان قاسم فرحة عمري وابني البكر الذي أرى الحياة في نور عينيه.. كنت أرتجف خوفاً وأنا أسمع قصص القتل وتصفية الأسرى لنظام لم يعرف الرحمة يوماً ولا يعرف حق الجار.. كنت أفزع كل ليلة وأوشك على الانهيار.. كانت تقتلني احتمالات الغياب الموجعة.. ولم أكن أريد أن يرى أحد انكساري».

وقاسم «مثل الكثيرين من الشباب الكويتيين الذين أسرتهم القوات العراقية الغازية بعضهم أطلق سراحه والمئات فقدوا أو تمت تصفيتهم».

أما ابنها الثاني حسين الذي وصفته بـ«زينة القلب والروح» فقد قالت الأنصاري «حسين كان يدرس الطب في ايرلندا وقد وصل للتو لقضاء عطلته الصيفية في الكويت.. فقرر الانضمام إلى الجيش الأميركي دون أن يخبرني متحججاً بالسفر لاستكمال الدراسة».

ومضت إلى القول «سافر حسين عن طريق الحدود إلى السعودية ثم إلى الإمارات ومن ثم أيرلندا ليذهب بعدها إلى لندن عقب أن تواصل مع السفارة الكويتية هناك ليبدي هو وزملاؤه الطلبة رغبتهم وإصرارهم على الانضمام للجيش الأميركي دفاعاً عن الوطن».

وأوضحت أنه في غضون أيام أقلت طائرة تابعة للخطوط الجوية الكويتية ابنها ورفاقه إلى مدينة بوسطن الأمريكية لتلقي التدريب المكثف في وحدة تابعة للجيش الأميركي.

وبشموخ الأمهات وقلوبهن الحنونة قالت الأنصاري «كان يتصل بي ابني حسين متى ما استطاع ليطمئنني على دراسته وصحته... لكنني كنت أعلم علم اليقين بأنه ليس في ايرلندا.. وأعلم أنه ضحى بدراسته لأجل الكويت... أنه قلب الأم الذي يعرف تماماً ما يخفيه الأبناء.. وفطرته الاستقصائية التي لا تُخطئ أبداً».
حسين المجادي اثناء الغزو
أما ابنها الثالث علي «الجعدة» فلم يخف عنها نواياه بل قال لها علانية «الوطن هو الأرض والعرض والشرف والكرامة يا يما... هي معركة بين الحق والباطل.. سندافع عن الكويت لآخر قطرة في دمنا»... لذا قرر الانضمام إلى الجيش البريطاني.

هنا تصمت أم قاسم.. وكأن ذاكرتها أيقظت فيها تلك اللحظات المثقلة بالهواجس والخوف...«تبعثرت الكلمات في فمي واضطربت داخلياً وأنا أرى أبنائي يتسربون من بين أصابعي واحداً تلو الآخر... بت أتيقن بأنني لن أراهم مجدداً إلا في المنام».

وتساءلت كيف أمنع ابني علي الذي كبر فجأة؟.. كنت أحمله في بطني عندما سلم زوجي علي الروح إلى بارئها راضية مرضية.. لذا أسميته على اسمه... كان يشد على يدي لأكون قوية لأجل أبنائي.. كما فعلت.

وقالت «كم بدت لي هذه اللحظات موحشة كنت أشتم رائحة الدم والموت والأجساد المحترقة.. لم يُفارق أذني نحيب الأمهات عند استلام أبنائهن في أكياس سوداء وأنين الآباء الذين لا يستطيعون حتى التعرف على جثث فلذات أكبادهم من شدة التعذيب».

وفي لحظة لمعت في عينيها الذكريات لتذرفها دموعاً تابعت الأنصاري «كانت ليالينا قاسية.. طويلة ومليئة بالألم والقلق الغزير.. تنحدر بنا نحو المجهول.. نحن السائرون في درب مغلف بالسراب».

وأضافت «وما بين الفخر والخوف.. وكلت أمر مشاعري المتداخلة إلى الله ورفعت بصري للسماء.. ورجوته أن يحرر بلدي ويقر عيني برؤية أبنائي فاستجاب السميع المجيب».

وقالت «انتصر الخير على الشر والحق على الباطل واستعدنا أرضنا وحكامنا وتحررت الكويت.. لتعلن كل قواميس اللغة إفلاسها عن إيجاد كلمة وافية تصف بها فرحة الكويتيين بتحرير أرضهم من براثن العدوان العراقي».

وأوضحت «وعندما أدرك الغادر أن عدوانه اندحر قام الجنود العراقيون بتفجير أكثر من 700 بئر نفطية متسببين بكارثة بيئية وصحية واقتصادية».

واستذكرت أم قاسم هذه الحادثة قائلة «توشحت السماء بثوب أسود بلون النفط لأيام وأسابيع بسبب حرق الجنود العراقيين الآبار لترسم لنا الفصل الأخير من غدر الغادر وسواد قلبه.. لكننا فرحنا بسواد الغيوم.. وبتلك الصباحات المظلمة التي حملت في طياتها إشراقة الحرية.. وسجدنا شاكرين لله واحتضنا تراب الكويت باليباب.. نكاية بالحرب والخذلان وبالغدر وخيانة الجار».

وبينت أنه «على الرغم من مرارة الغزو وكل ما عانيته.. لكنني ككل الأمهات الكويتيات فخورة بأبنائي وأن قدمتهم في سبيل الوطن فلن يكونوا أغلى من تراب الكويت.. وككل الأمهات الكويتيات فخورة بكل أبناء الكويت وتضحياتهم وبسالتهم.. بمن قاتل وبمن ظفر بالشهادة.. أصروا على تطهير أرضنا من دنس العدو الغادر.... ففعلوها بجدارة».

حكاية أم قاسم هي مثال لقصة وغصة عاشتها الكثير من أمهات الكويت وهناك من مررن بأقسى من ذلك خلال محنة الغزو العراقي الغاشم.. الأمهات اللاتي كتبن بدموعهن وقلوبهن المنكسرة تاريخ الكويت وضربن أروع الأمثلة في حب الوطن والتضحية بأغلى ما يملكن سيخلدهن التاريخ ويكرمهن الوطن.