أول اختصاص أكاديمي من نوعه في إيطاليا، تدرسه جامعة بادوفا (PADUA) في الشمال الشرقي في محافظة «فانيتو» وعاصمتها مدينة البندقية، وقد يكون الأول على مستوى أوروبا، يختص بالهجرة والتعددية الثقافية والتغير الاجتماعي.

جامعة «بادوفا» ثاني أكبر جامعة في إيطاليا، عمرها 800 سنة، الاختصاص يندرج تحت علم الاجتماع، ومدته سنتان، يحصل الطالب بعدها على شهادة الـ«Masters» ويعامل الطالب «الأجنبي» معاملة الطالب الإيطالي من حيث القبول والمنحة المالية بعد أن يتم تقديم الوثائق الخاصة بالدخل السنوي للعائلة، أي أنها تطبق العدالة والمساواة الاجتماعية، ولا تفرق ولا تميز بين ابن البلد والأجنبي أيا كانت جنسيته أو دينه.

Ad

الدافع الأساسي وراء هذا التخصص يرتبط مباشرة بمعاناة المهاجرين الأجانب، وما يتعرضون إليه من كراهية وظلم، إضافة إلى أن غالبية الدكاترة والأساتذة متعاطفون جداً مع هذه الفئة وباختلاف تام مع حكومة يمينية متشددة ومتطرفة تجاه «الأجنبي».

التقيت طالباً لبنانياً متفوقاً الأجنبي الوحيد من غير الأوروبيين فيها، بعد تخرج زميل له في أول دفعة تشهدها الجامعة، فحدثني عن ظروف النشأة والمنهج والمواد العلمية المقررة، فهذا التخصص يحاكي وضع إيطاليا والدول المحيطة بالمتوسط التي تشهد حالة مستعصية من الهجرة غير الشرعية ونظرة الكراهية نحو العرقيات الأخرى وبالأخص الجاليات الإسلامية، وبحسب الأرقام المتداولة والتقارير المنشورة فقد سجلت إيطاليا دخول 31 ألف مهاجر من بداية عام 2023 إلى أبريل 2023، أي ما يقارب نحو 258 مهاجراً يومياً، وتشكل ليبيا حالياً أكبر مصدر للهجرة غير الشرعية، فهي العقبة الأولى التي تستأثر بالاهتمام والدراسات إضافة إلى تونس.

هناك نظرة أوروبية لمفاهيم إسلامية تتسم بالانغلاق، فمثلاً مصطلح «الجهاد» يثير المخاوف والفزع، في حين أن المعنى الصحيح عند فقهاء المسلمين يحتاج إلى من يوصله إلى تلك المجتمعات بشكله ومعناه ومقاصده الحقيقية، لذلك تعمل الجامعة من خلال هذا الاختصاص على إزالة الالتباس وفهم الآخر والتقريب بين ما هو سائد ومنقول وبين ما هو واقعي ومنطقي.

النزاعات بين العرقيات وتاريخ وثقافة البلدان الإسلامية من المواد التي تدخل صلب المنهج، وهناك أنظمة يمكن أن يسوقها الباحث والدارس تدل على عمق وحجم النزاعات بين المسلمين والمسيحيين أو بين السنّة والشيعة وغيرها.

ومن أهم المواد التي تدرس في هذا الاختصاص دور «الوسيط الثقافي» وهو البديل عن «المترجم»، فالوسيط باستطاعته نقل ثقافة أي شخص يقف أمام القاضي بصورة تنم عن امتلاكه تاريخ هذه العرقية، بحيث يأتي دوره متوافقاً مع المفاهيم التي يعتنقها «المسلم المهاجر» أو من أي ديانة أخرى كانت.

والإطلالة على حالة سجن «بارما» في مقاطعة «لومبارديا» والتمييز الذي يمارس ضد المسلمين، تجعل دور «الوسيط الثقافي» أمراً في غاية الأهمية، فالمسلمون المسجونون يعتقدون أنهم يتعرضون إلى عنصرية كريهة، إذ كيف يسمح لليهودي أن يحمل كتابه المقدس كما للمسيحي، ولا يسمح بذلك للمسلم.

هناك إشكاليات على صعيد المهاجرين والأقليات والوافدين الأجانب في عموم أوروبا، جاء هذا الاختصاص ليعالجها من منظور أكاديمي مختص، ويسهم في وضع الاستشارات والدراسات والحلول المناسبة والموضوعية.

على سبيل المثال، مدينة أوروبية يسكنها 15% من عرقية ثانية مختلفة عن «الإيطالي» وهؤلاء مواطنون ملتزمون بدفع الضريبة، حالهم كحال أبناء البلد، إذا أقدمت البلدية على أي مشروع، وكانت الاستفادة لمجموعة على حساب أخرى مع أنها تتساوى بكل شيء ما عدا الفرق في الأصول العرقية، فكيف توازن وتساوي بين الطرفين؟

الدخول إلى «مخيلة الآخر» من أكثر المواد إثارة، «فالمختلف» يبقى موضوعاً في دائرة التشكيك والعزل من الغالبية، لأن التمييز هنا قائم على «حسبة الدم»، فمناهج التعليم مثلاً في إيطاليا كانت قبل هذه الأيام تعج بالكراهية تجاه «الأجنبي»، وفي حالة الفروقات بحقوق الجنسية تظهر ألمانيا مقارنة مع إيطاليا وأميركا أكثر تسامحاً، فمواصفات من يكتسب الجنسية قائمة على احترام الآخر، واحترام القانون، والالتزام بالإنتاجية في العمل في حين الإيطالي ينسبها إلى «صلة الدم».

يبقى «المهاجر» في أوروبا يعيش صراع الانتماء بين البلد الذي يحمل جنسيته والبلد الذي هاجر إليه واكتسب جنسيته، لأن فكرة «نحن» و«هم» لم تخلق أو تكرس هوية وطنية جامعة وموحدة بعد.