في ظلال الدستور: حوكمة القضاء في استقلاله وعلانية المحاكمة وضماناتها وضمانات القضاة (1-2)
سيادة القانون واستقلال القضاء
ورد في الخطاب الأميري في افتتاح الفصل التشريعي اصطلاح (حوكمة القضاء)، وكالعادة تبوأ هذا الخطاب مكانه اللائق به في ملاحظات النواب عليه، عندما أشار أحدهم إلى أن برنامج الحكومة خلا منه، وكان اصطلاح الحوكمة قد دخل في العقد الأخير من القرن المنصرم، في أسواق المال وعالم الشركات، وهي قواعد تضعها الجهات الرقابية، بما يحقق التوازن بين مصالح إدارة الشركة والمساهمين فيها وأصحاب المصالح الأخرى المرتبطة بها، وهو ما لا يتناسب مع مبدأ استقلال القضاء ومقاصده، والغاية التي يتغياها، وهي إقامة العدل بين الناس، وأنه لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه، وفي علانية الجلسات، وضمانات القضاة وعدم قابليتهم للعزل، وأنه لا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، وأنه لا عقاب إلا على الأفعال اللاحقة للعمل بالقانون، وأن الناس متساوون أمام القانون وأمام القضاء حكاما ومحكومين، وأن العقوبة شخصية وأن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تؤمن له فيها الضمانات الضرورية لممارسة حق الدفاع، وهو أصل الحقوق والحريات جميعا، وكفالة حق التقاضي للناس، وأنهم متساوون أمام القانون والقضاء في الحقوق والواجبات العامة، وفي علانية الجلسات وضمانات القضاة وعدم قابليتهم للعزل.
وهي مبادئ سامية ظفرت بها الشعوب في نضالها الطويل ضد الحكم الاستبدادي المطلق، وفي مواجهة محاكمات جائرة ظالمة عبر العصور، وقد حفل دستور الكويت بهذه المبادئ السامية، ليكون وثيقة تقدمية لحقوق الإنسان، وتمثل قواعد الحوكمة في مجال العدالة.
شرعية التجريم والعقاب
وقد تجسد مبدأ شرعية التجريم والعقاب الوارد في الدستور وفي نصوص تشريعية سبقت صدور الدستور، حيث يعتبر هذا المبدأ جزءاً من حوكمة العدل في قانون الجزاء، الذي حدد على سبيل الحصر، أسباب إباحة الفعل المؤثم جزائياً، في حالات الضرورة التي قدرها فأحسن تقديرها وفي تطبيق القانون الأصلح للمتهم وفي تبرئة المتهم، ولو كان مداناً ومحكوماً عليه إذا صدر قانون لاحق اعتبر الفعل الذي كان مجرما ومعاقبا عليه، فعلاً مباحاً.
عدم صلاحية القضاة وردهم
وجاء قانون المرافعات المدنية والتجارية ليفرد بابا كاملا من أبواب الكتاب الثاني تحت عنوان عدم صلاحية القضاة وردهم وتنحيتهم، وقد حدد الحالات التي يكون القاضي غير صالح لنظر الدعوى ممنوعا من سماعها، ولو لم يرده أحد الخصوم، وأبطل عمل القاضي إذا صدر في إحدى هذه الحالات كما حدد الحالات التي يجوز رد القاضي فيها، ورتب على تقديم طلب الرد وقف نظر الدعوى المقامة أمامه إلى أن يحكم في طلب الرد، وأجاز لطالب الرد استئناف الحكم.
كما كفل هذا القانون في أبوابه التالية تعدد درجات التقاضي لتصحيح الأخطاء التي تقع فيها الأحكام، كما أجاز التماس إعادة النظر في الأحكام الصادرة بصفة انتهائية، وحدد حالاته، كما أجاز اعتراض الخارج عن الخصومة، وتلا ذلك صدور قانون استقلال القضاء الذي طال الأمل في انتظاره، وقد عهد الدستور الى المشرع بكفالة استقلال القضاء في المادة (163).
قانون استقلال القضاء
وقد طال انتظار صدور هذا القانون لأكثر من ثلاثين عاماً بعد صدور الدستور الذي عهد إلى المشرع في المادة (163) بكفالة استقلال القضاء، إلى أن ظفر مجلس الأمة بعد تحرير البلاد من الغزو العراقي بمجلس تشريعي في الفصل التشريعي السابع، الذي أقر استقلال القضاء بالقانون رقم (10) سنة 1996 بتعديل قانون تنظيم القضاء بما يكفل استقلاله.
وكان للنائب المحترم السابق مشاري العنجري، إبان حمله حقيبة وزارة العدل، الفضل في إقرار مجلس الأمة، في فصله التشريعي السابع للقانون رقم 10 لسنة 1996، بتعديل قانون تنظيم القضاء بما يكفل استقلاله، ذلك أن العنجري قد آل على نفسه أن يكون بقاؤه في المنصب الوزاري رهناً بإقرار هذا القانون وفي ظل تعاون وتنسيق وتناغم بين العنجري وزير العدل واللجنة التشريعية بالمجلس، وقد كانت منتخبة من كوكبة من رجال القانون وغيرهم نخص بالذكر منهم رئيس اللجنة القانونية البرلمانية حمد الجوعان وأحمد باقر وعبد الله الرومي ومحمد ضيف الله شرار ود. يعقوب حياتي وشارع العجمى، وقد أجاد قراءة نصوص المواد (50 و53 و55) من الدستور مقروناً بالفصل الخامس الذي اختص به الدستور السلطة القضائية من باب السلطات وتحديد صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء الذي نصت عليه المادة (168) من هذا الفصل، وأحسنوا فهمها ووفقوا إلى استقصاء المفهوم الصحيح لمبدأ استقلال القضاء وكفالته، ودور المجلس الأعلى للقضاء فحددوا صلاحياته، حتى لا تتعارض هذه الصلاحيات مع استقلال القضاء.
كما أقر المجلس المذكور القوانين الآتيه في مجال الإصلاح القضائي:
قانون محاكمة الوزراء
كما كان انتظار صدور قانون محاكمة الوزراء الذي نص عليه الدستور في المادة (132) قد طال لأكثر من ثلاثين عاما، فأنجزه مجلس الأمة في الفصل التشريعي السابع أيضاً.
ترسيخ مبدأ القاضي الطبيعي
والواقع أن من الضمانات الجوهرية للمحاكمة العادلة المنصفة وجوب محاكمة المتهم أمام القاضي الطبيعي، وقد استقرت هذه الضمانة في الضمير الإنساني بعد محاكمات ظالمة جائرة عبر التاريخ لم يكن هناك ما يمنع فيها من أن يكون بين قضاة المحكمة من أبدى رأيه مسبقاً بإدانة المتهم أو استنكر الفعل الذي اتهم به، بل كانت المحاكم تشكل من أمثال هؤلاء، وفي ظلال ترسيخ مبدأ القاضي الطبيعي وتحقيق المساواة بين الناس في كل المحاكمات الجزائية بادر العنجري وزير العدل وقتئذ، إلى تقديم الحكومة لمشروع قانون بإلغاء محكمة أمن الدولة التي كانت قد أنشئت سنة 1969، وأقره المجلس وصدق عليه الأمير وأصدره.
التظلم من قرار حفظ التحقيق
كما تصدت لجنة الشؤون التشريعية، أثناء نظرها لاقتراح بقانون قدم من بعض أعضاء المجلس في الفصل التشريعي السابع بإلغاء سلطة وزير الداخلية، بحفظ التحقيق في بعض الجرائم، لقرارات حفظ التحقيق في الجرائم بوجه عام، سواء بقرار من النيابة العامة، أو بقرار من الإدارة العامة للتحقيقات، فأقره المجلس في هذا الفصل، بما يتيح للمجني عليه أو لورثته التظلم من قرار حفظ التحقيق، أمام غرفة المشورة بمحكمة الجنايات أو بمحكمة الجنح لإحالة الدعوى الجزائية إلى أي منهما حسب الأحوال، في حال قبول التظلم.
تجريم الامتناع عن تنفيذ أحكام القضاء
كما أضاف الفصل التشريعي السابع لمجلس الأمة، الزاخم بتفعيل استقلال القضاء، نصاً إلى قانون الجزاء يعاقب بالحبس والعزل كل موظف عام مختص امتنع عن تنفيذ حكم قضائي واجب النفاذ، وذلك بالقانون رقم 9 لسنة 1996، ذلك أن من عناصر استقلال القضاء وحماية العدالة واحترام مبدأ سيادة القانون والدولة القانونية، احترام أحكام القضاء، فلا يجوز وقف تنفيذها أو الامتناع عن تنفيذها أو تعديلها إلا من خلال الإجراءات التي وضعها القانون للطعن عليها من خلال درجات التقاضي المختلفة.
وأستعيد في هذا السياق كلمة مأثورة لتشرشل عندما كان رئيسا لحكومة الحرب في خلال الحرب العالمية الثانية والتي قضت على الأخضر واليابس أن أمر وزير الحرب بتنفيذ قرار محكمة صدر بمنع الطائرات العسكرية من التحليق قرب مقرها أثناء عقد جلساتها، قائلا له: «خير لبريطانيا أن تخسر الحرب من إهانة قضائها، لأن عدم الامتثال لقرار المحكمة فيه إهانة للقضاء البريطاني لن يمحوها الزمن، وسيلحق العار ببريطانيا العظمى إلى أبد الدهر، أما الحرب فيوم علينا ويوم لنا».
ومن الجدير بالذكر أن العنجري طبق هذا القانون نصاً وروحاً حتى في الاختصاصات التي عقدها هذا القانون لوزير العدل، فلم يرفض أو يعدل قراراً للمجلس الأعلى للقضاء، حتى لو كان رأي المجلس استشارياً، فقد كان حريصاً دائماً على أخذ رأي المجلس، في كل ما يتعلق بشؤون مرفق العدل، ولو لم يتطلب القانون أخذ رأي المجلس فيها.
وللحديث بقية عن الاختصاصات والصلاحيات التي منحها التنظيم المقترح للقضاء وكيف أهدرت استقلال القضاء إن كان في العمر بقية.