بعد شهور من وفاته هأذا أكتب عنه، ناصر صالح الدغيشم رجل ليس من النوع الذي يترك فرصة للصديق أن ينساه أو المشغول بالحياة أن ينشغل عنه، وكان موضوع مقالي هذا آخر حتى برز رحمه الله أمامي فجأة بوجهه البشوش وابتسامته المميزة، ففرض نفسه موضوعاً مستحقاً، وشخصاً حرياً أن ينصفه صديقه، هو أشهر من نار على علم لدى محبيه، وهو حلو الشمائل جميل الخصال كريم المعشر راقي الحديث لمن يعرفه.
ناصر الدغيشم أحد الذين تشرفت بمعرفتهم في مسيرة الحياة، وأحد الذين تركوا بي أثراً من ثقافتهم، هو مجموعة رجال في رجل، لا يقول (لا) أبداً، ولا يتعذر بانشغال عمن يحتاج من ربعه (فزعة)، ولعل جملة (مرني باكر) هي المتوقعة دائماً، ولأنه قول وفعل فإني كنت أجده جاهزاً منتظراً في كل موعد، ومع أول (تلفون) أجده قد ركب بجواري وقال: إلى الإدارة الفلانية، وهو لا يجيد طرق الأبواب بالتي هي أحسن، بل يدخل عنوة وكأنه من أهل المكان ولا يغادر إلا وقد أنجز المهمة بالتي هي أحسن.
والجميل بالأمر أن «بومحمد» موسوعة من الأخبار والمعارف، وأذكر مرة أننا كنا خارجين من مجمع الوزارات باتجاه دوار مسجد الحمد، فتوقفنا لبرهة كي يخبرني عن منازل البراحة التي خلف المسجد، والمنازل التي تقع شرقه، وأي البيوت كانت غربه، ولا تنتهي الحكاية عند الأسماء والأماكن التي كانت تشكل أكبر الأحياء القديمة (المرقاب)، بل الأحداث والأدوار والأخبار والأسرار والكثير من «العلوم».
وأذكر مرة أننا كنا متجهين إلى مكتب أحد سماسرة الأسهم بالمباركية (أيام عز البورصة)، فبدأ يشرح لي عن الدكاكين القديمة، وما نوع بضاعة كل دكان ومن صاحبه وبعض الحكايات التي اشتهرت عن هذا الدكان أو ذاك وهذا السوق أو ذاك، وكانت أم الحكايات حين تحدث عن دكان والده وبعض الحكايات ذات العبرة التي كان يرويها عن الدكان وصاحبه والدكاكين المجاورة، ومع كثرة الأحاديث التي جمعتني به لم أسمع منه ذماً بأحد أو انتقاصاً من أحد.
على أن كل ذلك لا يساوي جزءاً بسيطاً من تاريخه التربوي الحافل وحكايات المدارس بمدرسيها وطلبتها وأولياء أمورهم، ولأنه كان يوماً ناظر ثانوية الشويخ أشهر (الثانويات)، فإنه إن قال فلاناً كان (شاطر) أو فلاناً كان (راعي دواويح)، فإن هذا الفلان وذاك الفلان من مشاهير السياسة أو المجتمع في هذه الأيام.
لكن أم الحكايات الحقيقية عندي كانت «الجلطات» التي توالت على القلب الكبير وأثخنت جراح المخ المتوقد، فأودعته رهين المحبسين، وكنت أزوره في العامين الأولين بعد المغرب ضمن بعض المحبين الذين يزورونه، لكن صحته لم تعد تسعفه لاستقبالنا بعد ذلك، فانقطعت عنه لفترة ليصدمني خبر وفاته في إحدى الصحف.
رحم الله بومحمد، كان رائعاً في كل شيء، وكان طيباً في كل شيء، وكان واعياً بكل شيء، وكان بسيطاً بكل فخامة ولين المعشر مع شدة صلابته، وكان من يعرفه جيداً لا يفارقه ولا يذكر منه إلا كل خير، والمؤكد أن كل من عرفه فقد رجلاً لا يتكرر في هذا الزمن.