عرف عن بعض شعراء الجاهلية بدء قصيدة الهجاء بالثناء على المهجو بما فيه- أو يدّعى- من صفات حميدة وبطولات مجيدة، حتى يخال المرء نفسه أنه في حضرة عظيم من عظماء القوم، ومن ثم فجأة تتساقط زخات الهجاء وتتسابق عبارات السخرية التي تحمل في طياتها مديحاً للشاعر الذي ينجح في تصوير نفسه مهيمناً على المشهد ومتفوقاً على الخصم رغم ما ألصق به من فضائل ونسب إليه من شمائل!
يخلق هذا الأسلوب الشعري جواً من التوتر الذهني وحالة من التشويق النفسي، وذلك لشدّ انتباه المتلقّي وتكريس القناعة لديه بانتصار الشاعر في ميدان المقارنة مع الشخص المهجو، وهذا ما يتشابه في علم السياسة مع ما يسمى «صناعة العدو» التي تعني العملية التي تستهدف إيجاد خصوم افتراضيين أو التهويل من أخطار محدقة بهدف تبرير مواقف محددة أو تعزيز سلطات مُهدَّدَة.
تُعد «صناعة العدو» أداة فعّالة لتوجيه الرأي العام حول هدف واحد مشترك، غالباً ما يكون مصطنعاً في وجوده ومبالغاً في حجم خطورته أو حقيقة أهميته، فيتم شحن الوجدان الجماهيري بأفكار وشعارات من شأن تردادها والاقتناع بها تكريس هوية معينة ينقسم الشعب حولها عمودياً بين مؤيّد وطني ومعارض خائن! فيستفيد السياسيون والقادة والأنظمة من كل ذلك لتشتيت الانتباه عن القضايا والتحديات الأكثر إلحاحاً والتي يفترض تصدّيهم لها بالمعالجة في حين أنها تقع من سلم أولوياتهم.
غالباً ما تعتمد سياسات «صناعة العدو» على أسلوب المراوغة التي تحقق لمستخدميها منافع خاصة ومكاسب لا تلتقي دائماً مع المصالح الوطنية الشاملة، مما يقتضي تنبّه الشعوب- ولا سيما تلك التي تتحكم العاطفة في قناعاتها وقراراتها- الى التقنيات والخطوات التي يتم إيهامهم من خلالها بضرورة الخوض في صراع مع عدو مصطنع يتطلب الانتصار عليه فعلياً استنفاد الطاقات والأموال واستنزاف مستقبل الأجيال!
«صناعة العدو» هي عملية مركبة يتطلب التخطيط لها وتنفيذها على أرض الواقع اتباع عدة خطوات تختلف مكوناتها الفرعية من بلد الى بلد ومن مجتمع الى آخر، ومن أبرز قواسمها المشتركة: تحديد الهدف أولاً، حيث يتم اختيار مجموعة أو فئة من الناس بناء على عوامل ومعطيات- يسهل من خلالها استخدام وسائل التمييز والتصنيف النمطي- كالدين والمذهب والعرق والجنس والانتماء السياسي، وذلك بهدف تصنيفهم كعدو مزعوم، ليتم الانتقال ثانياً الى مرحلة الترويج الأيديولوجي المرتكز على أسس فلسفية أو دينية أو تاريخية، وذلك من خلال احتكار وسائل الدعاية والإعلان واستخدامها للتهويل من خطر داهم يسببه العدو المفترض، وهذا ما تقوم به الأنظمة الشمولية لفرض الانضمام الى الحزب الواحد من خلال استخدام وسائل السيطرة السلطوية والقانونية والإعلامية والنفسية والاقتصادية، ويشار ثالثاً الى أسلوب تعزيز الانقسامات الذي يستخدم فيه منتجو العدو الوهمي سياسة «فرّق تسد» لخلق التوترات وتأجيج الخلافات وتقويض التعاون وضرب أسس الثقة وتعميق الشروخ بين مكونات المجتمع الواحد، مما يمهّد لتدخلهم ويعزّز سيطرتهم ويكرّس الحاجة الدائمة الى وجودهم ودعمهم.
***
لا شك أن ما تؤثره عملية «صناعة العدو» سلباً في المجتمعات يدخلها في خانة نظام «الشمولية المعكوسة» التي اعتبرتها «موسوعة المصطلحات السياسية» بأنها ممارسات ظاهرها ديموقراطي، وهي في حقيقتها تتشارك مع «النازية» في التطلع نحو سلطة غير محدودة وتوسعية عدوانية باستخدام أساليب وأفعال حقيقتها معاكس لظاهرها، ومن ذلك المراوغة والإرهاب الإعلامي والتعامل الأمني والعنف الجسدي وأساليب تفتيت الجماهير.
ورغم الصورة السلبية التي تستقر في الأذهان عادة عن أسلوب «صناعة العدو»، فإن لهذه «الصناعة» بعض الوجوه المشرقة والغايات السامية، حيث تعمد بعض الدول أحياناً الى التهويل من حجم آفة اجتماعية معينة أو التحذير من خطر اقتصادي محدق أو التخويف من ظاهرة سلبية بدأت بوادر تفشيها تظهر للعلن، وذلك بهدف صنع وتضخيم «عدو أو خصم» لا يمكن محاربته الا بقناعة عامة وشاملة وبمشاركة فردية وجماعية في جهود التصدي وبالتفاف شعبي حول الخطوات الإصلاحية.
***
تم استخدام أسلوب «صناعة العدو» عادة في الأنظمة الدكتاتورية التي برعت في تسويق أساليب القمع والقسوة التي مارستها على أنها واجبات وطنية مفترضة لدفع الأخطار والتهديدات المتأتية من عدو وهمي أو مبالغ في حجم قوته، واستخدم الأسلوب نفسه من معظم الدول في وقت الأزمات الكبرى أو لتبرير تدخلاتها العسكرية أو الحروب، ومن أبرز الأمثلة على ذلك خلق فكرة «الإسلاموفوبيا» لدعم وتبرير الحرب على «الإرهاب»، ولا ينسى في السياق أسلوب «شيطنة العدو» الذي اتبع في فترة «الحرب الباردة» ما بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، حيث عمد كلا الجانبين الى صنع وترويج صورة سلبية عن بعضهما وتخويف شعوبهما من نوايا التوسع العسكري واستخدام السلاح النووي وسياسات الهيمنة التي يتبعها العدو!
الأسلوب نفسه يقترن بخطط وخطب المجموعات والميليشيات والقادة الذين يخوضون غمار الحروب الأهلية أو الطائفية، حيث تبذل الجهود لتشويه صورة الأعداء المفترضين من المجتمع نفسه ولترويج بعض الأفكار النمطية وتثبيت الأحكام السلبية عن الخصم، مما يساهم في اتساع الانقسامات المجتمعية وتزايد أعمال العنف ورواج أساليب التطهير العرقي والأيديولوجي والمجازر الجماعية والتفريق العنصري!
****
ليس عصياّ على الإدراك أن كل ما سبق من أدوات وأساليب ونتائج مرتبطة بعملية «صناعة العدو» يبدو وجودها جلياً فيما اتبعته الطبقة الميلشياوية من أساليب للسيطرة على الشعب اللبناني والتحكم في مصيره وأمواله واستغلال إرادة العيش لديه لترويضه على فكرة الاستسلام لتراكم الأزمات المفتعلة.
على أمل تفصيل ذلك في مقال لاحق، تجدر الخلاصة الى أن ما يهيمن على الوضع اللبناني الراهن، هو استخدام جميع الأطراف والأحزاب والتيارات- المهيمنة طائفياً أو اجتماعياً أو عسكرياً- لأسلوب «صناعة العدو» القائم على تحريك «غريزة البقاء» وتبرير السلوكيات والقناعات المعززّة لها من خلال زرع الخوف وتكريس القلق من خطر محدق يهددّ شبكة الأمان والاستقرار والمصالح الجماعية أو الوطنية.
وما ترويج وتكرار عبارات التخويف من «الانفلات الأمني» وزعزعة «العيش المشترك»، وتبادل الاتهامات بـ«العمالة» أو «فائض القوة»، واستخدام أساليب التصنيف النمطي بـ«التبعية للسفارات» أو «الارتباط الخارجي»، والتراشق بعبارات «منظومة الحكم والفساد» مقابل «محور السلاح غير الشرعي»، إلا من وسائل التعميم والتعتيم القصدية التي تستهدف شيوع فوضى القناعات وشحن النفوس بتأثيرات سلبية تؤدي الى «شيطنة» وتشويه صورة «الفرقاء الآخرين» في مجتمع من المفترض أنه «واحد»!
* كاتب ومستشار قانوني