وباء عنف السلاح اجتاح أميركا فلماذا تخلينا عن محاولة التصدي له؟
احتفلنا في الولايات المتحدة بذكرى استقلالنا بالطريقة الأكثر أميركية، أي بالاختباء طلباً للأمان.
لقد شوهت 22 عملية إطلاق نار جماعي على الأقل عطلة نهاية الأسبوع الطويلة الأخيرة، في الرابع من يوليو 2023، وتمخضت جرائم القتل التي توقع عديداً من الضحايا بالأسلحة النارية، عن سقوط 20 شخصاً وجرح العشرات في الولايات والمدن والبلدات في أنحاء البلاد كافة، وأطلق رجل مسلح ببندقية من طراز «أي آر- 15» (AR-15) ومسدس، النار في فيلادلفيا، مما أسفر عن مقتل وإصابة ضحايا من بينهم أم تبلغ من العمر 33 سنة وتوأميها اللذين كان عمرهما سنتين، وأدت عمليات إطلاق النار الفتاكة إلى تعطيل التجمعات الخاصة بالعطلات في بالتيمور ولويزيانا وميشيغان وتكساس، وفتح أحدهم النار على أشخاص أشعلوا ألعاباً نارية احتفالية في بوسطن، وحينما أطلق مسلح النار من نافذة سيارة دفع رباعي في واشنطن العاصمة، فإنه أردى شخصاً له من العمر 10 سنوات، وآخر يبلغ عمره 17 سنة.
حدثت تلك المآسي بعد عام واحد من إقدام مسلح على قتل سبعة أشخاص وإصابة 48 آخرين في موكب الاحتفال بعيد الاستقلال في ولاية إلينوي، وقد سبقه عام آخر واصلت عمليات إطلاق النار الجماعية فيه ارتفاعها، وتبدأ في ميشيغان، جلسة استماع تعقد قبل محاكمة طالب مدرسة ثانوية عمره 17 سنة أحضر سلاحاً شبه آلي إلى المدرسة وقتل زملاءه في الصف، لقد أصبح عنف السلاح متأصلاً في أميركا على غرار رياضة البيسبول أو نقانق «هوت دوغ» أو فطيرة التفاح.
لقد درست عمليات إطلاق النار في الولايات المتحدة خلال ما يزيد على عقد من الزمن شكل فترة زمنية شهدت تحولات مذهلة في استجابتنا للصدمات المرتبطة بالأسلحة النارية.
لم يمر وقت طويل على تسبب عمليات إطلاق النار الجماعية بإجراء مراجعة ذاتية للشخصية الوطنية، وقد طالب حتى السياسيون الذين تمولهم «الجمعية الوطنية للبنادق» National Rifle Association بإصلاح قوانين مأمونية السلاح بعد أن أدت عملية إطلاق نار جماعي في مدرسة «ساندي هوك» الابتدائية في كونيتيكت إلى مقتل 20 طفلاً وستة بالغين في عام 2012، وسارت حشود من متظاهرين وناجين في الشوارع بعد إطلاق النار على «مدرسة مارغوري ستونمان دوغلاس الثانوية» في باركلاند بولاية فلوريدا في عام 2018، وفي ذلك الوقت، أصدرت الولايات في كل أنحاء البلاد قوانين تقيد الوصول إلى الأسلحة، وفي استجابة منه على الاحتجاجات الواسعة النطاق في أعقاب عمليات إطلاق نار جماعية متتالية في إل باسو، تكساس، ودايتون في ولاية أوهايو في عام 2019، ندد الرئيس السابق دونالد ترامب بالخطاب المثير للانقسام الذي سبق أن استعمله في وقت سابق حول عنف السلاح.
لكن في هذه الأيام، تثير عمليات إطلاق النار الجماعية استجابة تنم عن قدر أكبر من الرعب، قوامه التخلي، إنه الشعور بعدم إمكان فعل أي شيء أو أن الأمور ستزداد سوءاً.
كيف وصلنا إلى هذه الحال؟
لا شك أن مشاعر العجز الأميركية في شأن الحد من عنف السلاح ناتجة من مكائد «الجمعية الوطنية للبنادق» التي تمثل جماعة ضغط قوية تنشط من أجل صانعي السلاح، وتذهب جهودها إلى ما هو أبعد من بيع الأسلحة، إذ تمول «الجمعية الوطنية للبنادق» وأنصارها، سياسيين وقضاة وغيرهم من صناع القرار ممن يسنون قوانين أكثر تساهلاً بشأن حق الأفراد في حمل السلاح، مما يؤدي إلى مزيد ومزيد من الأسلحة التي يملكها مدنيون.
وإذ يبدأ النظام في الظهور بمظهر المنحرف والظالم، تصبح تسوية هذا الوضع أمراً متعذراً، ففي أعقاب إعراب أحد نواب نيويورك الجمهوريين عن دعمه حظر أحد أنواع البنادق الهجومية بعد عملية إطلاق نار جماعي ذات دوافع عنصرية في سوبر ماركت بمدينة بوفالو عام 2022، بدرت ردود فعل حادة من جانب أنصار حقوق السلاح إلى درجة إعلان ذلك النائب في غضون ثلاثة أيام اعتزامه التنحي من منصبه.
في جانب آخر يطغى الخمول على نظامنا السياسي، ويشجب الديموقراطيون عدم قدرة السياسيين الجمهوريين على الإتيان حتى بأبسط جهود إصلاح قوانين السلاح، أو عدم رغبتهم في مناقشة ذلك. وبحسب ما أخبرتني لي بيث روث، وهي المديرة التنفيذية لـ«مشروع تينيسي آمنة»، أخيراً، فإن «الاستطلاعات تظهر دعماً غير مسبوق لسن قوانين تنسجم مع الحس السليم في شأن الأسلحة النارية. ولكن، ستستمر جماعة الضغط المؤيدة لحمل السلاح في السيطرة على هيئاتنا التشريعية، إلى أن نرى عدداً قليلاً من الجمهوريين المؤيدين للسلاح يبدون استعدادهم لتقديم تنازلات أو يخسرون انتخابات أولية أو عامة لأنهم فشلوا في ذلك». وبشكل مماثل، شجبت المعلقة السياسية الليبرالية دانييل مودي، واقعاً قوامه أنه «في حين يعتقد معظم الأميركيين بمسألة مأمونية الأسلحة وضرورة إصلاح قوانين الأسلحة، فإن الحزب الجمهوري يرى في موت الأميركيين ربحاً أكبر من إنقاذ الأرواح».
في الواقع، لولا أنها مميتة، فإن سياسات السلاح الأميركية تبدو كأنها من صنف مسرحيات المحاكاة الساخرة، ففي عام 2021، قدمت مارغوري تايلور غرين، وهي عضوة في الكونغرس عن الحزب الجمهوري، تشريعاً لوقف «الحرب على مالكي الأسلحة» من خلال إلغاء «المكتب الأميركي للكحول والتبغ والأسلحة النارية»، بعد عام واحد، ألغت محكمتنا العليا قانوناً مكرساً منذ عام 1913 في مدينة نيويورك، سمح للمسؤولين بإرساء القواعد المتعلقة بتحديد الأشخاص الذين يمكنهم حمل أسلحة محملة بالذخيرة داخل مترو الأنفاق خلال ساعة الذروة، وستنظر تلك المحكمة الآن في قضية في شأن الحسم في مسألة قدرة الحكومة على منع الأشخاص الذين صدرت في حقهم أحكام تتعلق بالعنف المنزلي من حيازة السلاح.
لا تمثل جماعة الضغط من أجل السلاح ولا الحزب الجمهوري العقبتين الوحيدتين في وجه إصلاح تشريعات مأمونية السلاح، إذ يماثلهما الرأي العام الأميركي، إذ تفقد أعداداً متعاظمة من الأميركيين الثقة بالنظام، ويعتقدون أن حمل مزيد من المدنيين السلاح يمثل الحل المجدي لتزايد عمليات إطلاق النار.
لقد أنتج نحو 465 مليون بندقية لسوق الأسلحة الفردية في الولايات المتحدة، أي أكثر من قطعة سلاح واحدة لكل شخص في البلاد بأكملها، وتشير الدلائل إلى أن الخوف من أن يصبح المرء الضحية التالية، يقود إلى تكوين شرائح جديدة من مالكي الأسلحة، بمن في ذلك الأميركيون السود والنساء ومن يصفون أنفسهم بالليبراليين.
لقد أصبحت أميركا مجتمعاً مسلحاً يطلق النار أولاً ثم يطرح الأسئلة لاحقاً، وتؤدي المآسي إلى الخوف الذي يفضي إلى الانقسام، ويقود الأمر الأخير بشكل متزايد إلى تخفيف صرامة قوانين الأسلحة، فيتوافر مزيد من الأسلحة، وتزيد عمليات إطلاق النار.
قبل 247 عاماً، أعلنت الولايات المتحدة استقلالها عن بريطانيا العظمى، بالطبع، وتكفل الوثائق التأسيسية لبلادنا الحق في الحياة والحرية والسعي وراء السعادة، مصونة لا يجوز التصرف بها، وأياً كانت الظروف، تدعم تلك الوثائق أيضاً «حق الناس في الاحتفاظ بالأسلحة وحملها».
بالتالي، لقد شكل معنى حقوق السلاح وسياقها، المفصلين بشكل غامض في التعديل الثاني لدستور الولايات المتحدة، موضع نزاع حاد في الشطر الأكبر من التاريخ الأميركي، وفيما يتعلق ببعض الناس، أصبحت ملكية السلاح ترمز إلى السلامة الشخصية أو الاستقلالية أو الحماية من الاستبداد الحكومي، وفي ما يتعلق بآخرين، يعتبر الحق في امتلاك السلاح بلا ضوابط من مخلفات بعض أسوأ فصول التاريخ الأميركي.
كذلك توصل عدم قدرتنا على ردم هذه الهوة إلى ما هو أكثر من إطلاق النار الجماعي، إذ توصل إلى انتهاك الحريات التي تدعم السعادة الأميركية، وعلى نحو ما أخبرتني أم لأربعة أطفال من ناشفيل في الشهر الماضي خلال مقابلة بحثية، «لن أسمح لعائلتي بالذهاب إلى المسيرات أو الحفلات في الرابع من يوليو عيد الاستقلال، فإذا سمعت فرقعة فإنك لن تعرف إذا كانت ألعاباً نارية أو طلقات نارية».
والأسلحة وإطلاق النار تطرح أسئلة وجودية على الأميركيين، ولفترة طويلة ستؤثر الطريقة التي نتعامل بها مع هذه الأسئلة لفترة طويلة في تحديد معنى الحياة والموت في بلدنا على مدى الـ247 عاماً المقبلة.
* جوناثان ميتزل مدير قسم الطب والصحة والمجتمع في جامعة فاندربيلت.