الردة الدستورية... والتنقيح الواقعي
نعيش اليوم حالة مستمرة لردة دستورية مخيفة، تتمثل في التحايل والانقلاب على نصوص الدستور بصورة واضحة، مع إلباس الأمر لباس المشروعية القانونية، وهو منها براء.
فمنذ ما يزيد على 30 عاماً ونحن نشهد اندفاعاً محموماً يتسابق إليه السياسيون والبرلمانيون، والحكومة أيضاً تدخل معهم في نطاق هذا السباق، للتحرر من الدستور وأحكامه ونصوصه ومبادئه، بدلاً من الحفاظ عليه والذود عنه، والأسوأ من ذلك أنهم يأتون بقوانين تصنف أنها ولدت في كنف الدستور وأحكامه، في حين أنها مولود لقيط جاء من خارج رحم الدستور ومنتهكاً لأحكامه، ويتظاهرون رغم كل ذلك بأنهم حماة الدستور، ويقدمون أنفسهم على أنهم كذلك، ويدعون الحفاظ على الدستور وعلى جميع مؤسسات الدولة وشرعيتها، وهم يخالفون ذلك بالعديد من الأعمال، من خلال التشريعات المخالفة والمنتهكة للدستور والمنقحة لأحكامه واقعياً، حتى أصبح لدينا سجل متخم بالقوانين المخالفة للدستور والمفرغة لأحكامه، فقد شاهدنا ذلك إبان أزمة المناخ عام 1982 في جملة من القوانين التي عطلت أحكام الدستور، والتفّت عليه وعلى قوانين أساسية أخرى، وذلك لإيجاد الأوضاع الواقعية التي تمرر ما يريدون ويحقق لهم من خلالها مراميهم وأهدافهم التي لا تعبّر عن أي نزعة وطنية حقيقية بقدر ما تعبّر عن انحراف سياسي وتشريعي، بل وسياسي، يشبعون به رغباتهم وما لديهم من توجهات ليست لها اعتبارات وطنية أو مشروعة، إلا المصالح الخاصة أو ترضيات أو عطاءات للحفاظ على مقاعدهم.
وقد رأينا في تشريعات أزمة المناخ أمثلة عديدة على هذه التشريعات المخالفة للدستور والمنقلبة على أحكامه، ثم بدأت الموجات تتزايد بعد تحرير الكويت، فأصبحت أطراف عديدة لديها نواب يتمكنون من خلالهم من سَنّ مثل هذه التشريعات، غير عابئين بالدستور وحمايته، وفي ظل هذه الغفلة صدرت أسوأ القوانين التي أفرغت الدستور من معناه، وانتهكت مبادئه وأحكامه، فجاءت قوانين غير دستورية، مثل قانون التأمينات الذي قرر معاشات تقاعدية وجمع راتب استثنائي للنواب خلافاً للدستور، ثم تبعه قانون شراء المديونيات بمخالفاته المخجلة، وأخطرها كان القانون 44 لسنة 1994، الذي غيّر معنى الكويتي بصفة أصلية، كما هو مقرر بالقانون 15 لسنة 1959، والذي كرسته المادة 82 التي حددت ذلك التعريف، وأسبغت عليه المادة 181 حماية تحصين دستوريته، لكنهم في سبيل مآربهم نقحوا الدستور وانقلبوا على أحكامه بالقانون 44/ 1994، وهم من يعيب على السلطة هذا المسلك وبمضيّهم معها بنفس الطريق.
وقد توالت تشريعاتهم تلك بالقانون رقم 32 لسنة 1995، لكنه نسف من حيث لا يدركون مخططهم، وسنعود إلى ذلك بمقال آخر.
ثم تتالت العديد من القوانين المسخ والمخالفة للدستور تحت غطاء حقوق المواطنين ومصالح الوطن، ولا يوجد شيء من ذلك، فكل ما هنالك هو تكريس لشراء أصوات بصورة غير مباشرة وترضيات انتخابية بقوانين ذات كلفة مالية محظور على الأعضاء تقديمها وفقاً للمادتين 20 و140 من الدستور، وفي أعطاف هذه الأجواء تم إقرار قانون مشوه ومنحرف للدوائر الانتخابية بـ 4 أصوات لحاجة في نفوس البعض، ثم تلى تلك المرحلة صدور قانون الجرائم الإلكترونية وقانون المسيء، وجملة أخرى من القوانين لا يسع المجال لحصرها، تفرّغ وتنقح الدستور أيضاً.
واليوم نشهد تتابعاً في هذا الانحراف المؤلم فيما يسمى بحقوق غير المقيمين بصورة غير قانونية! ومزايدات وتسابق بين بعض النواب لتبنّي ذلك!! وكيف بالله عليكم يستوي الأمر لمن إقامته غير مشروعة ويمنح حقوقاً قصرها الدستور على المواطن، في ظل صمت ومراقبة وعدم اعتراض مَن كنّا نحسب أنه من حماة الدستور والغيورين عليه ممن أقسموا بأن يذودوا عنه؟!
أليست تلك ردة مخزية عن الدستور؟!
فهل هذا هو دستور 1962؟! وهل هذا ما أراده الآباء المؤسسون؟!
لكنها الردّة الدستورية بحثاً عن المصالح والتكسبات على حساب الوطن.
وللحديث بقية، ، ،