هل يحتاج الاقتصاد إلى أن يصبح عادلاً؟
على مدى الـ 150 عاماً الماضية، نمت ثروات الشعب الأميركي بشكل كبير. بيد أن الأمر كان مجرد مصادفة، إذ تبدو فكرة أن الناس العاديين يمكن أن يصبحوا أغنياء - فضلاً عن أن يصبح هذا مشروعاً مطبقاً - فكرة لا يمكن تصديقها.
ومع ذلك، حدثت المعجزة بالفعل، واليوم تتجادل طائفة من الاقتصاديين حول كيفية الحفاظ على استمرار العملية.
في كتابه الجديد (التراخي نحو المدينة الفاضلة)، يقدم جيه برادفورد ديلونغ، أستاذ الاقتصاد المؤثر في الولايات المتحدة، ونائب مساعد وزير الخزانة السابق، تفسيراً لتطور الرأسمالية.
وهو ليس تاريخاً للاقتصاد بقدر ما هو تاريخ لصنع السياسات الاقتصادية، وما نجح منها، وما لم ينجح، حيث لا يعني «العمل» زيادة إثراء الأغنياء فحسب، بل أيضاً تحسين حياة الناس العاديين.
• هدف ديلونغ الجدلي، هو إظهار أن عملية إثراء البسطاء وعدالة توزيع الثروات قد تعطلت أخيراً، ويحاول مراجعة ما تعلمناه، حتى نتمكن من العودة إلى المسار الصحيح.
• الكتاب شامل وممتع، حيث يمتلك الكاتب موهبة في تبسيط المفاهيم المجردة وسرد قصص شيقة تظل عالقة بالأذهان.
• لكن للأسف تنتهي القصص بنهاية محزنة، حيث يعيش أكثر من 9 في المئة من البشرية في «فقر مدقع» عند مستوى المعيشة، الذي يبلغ دولارين تقريباً في اليوم أو أقل.
• يدلل ديلونغ على أن هناك ما يكفي من الغذاء في العالم، لذلك ليس من الضروري أن يشعر أي شخص بالجوع.
• وهناك الكثير من الملابس في مستودعاتنا، لذلك ليس من الضروري أن يشعر أي شخص بالبرد، ومع ذلك لم نبلغ بعد مرحلة المدينة الفاضلة.
• بل على العكس تماماً، جعلت الأخطاء الفادحة التي ارتكبها المسؤولون الأوقات الصعبة أكثر صعوبة. ويبرهن على ذلك بسرد عدة أمثلة من التاريخ.
• عندما أعاد ونستون تشرشل إنكلترا إلى معيار الذهب عام 1925، تسبب في الانكماش وانتشار البطالة على نطاق واسع.
• وعندما فرض بنك الاحتياطي الفدرالي في الولايات المتحدة قيوداً على المعروض النقدي عام 1929 بعد انهيار سوق الأسهم، وهو قرار أفضى إلى تعميق الكساد العظيم.
• كان الاتحاد السوفياتي مثالاً حياً استمر لعقود في سوء الإدارة -والذي قام ديلونغ بتشريح أمراضه بإيجاز- وكذلك الصين تحت حكم ماو تسي تونغ.
• وخلص الكاتب إلى فكرة مفادها أنه لفترة طويلة، لم يكن لدى الحكومات أدنى فكرة عن كيفية تنظيم السوق للحفاظ على الرخاء، أو لضمان الفرصة، أو لتحقيق المساواة.
المشكلة الأعمق - من وجهة نظر الكاتب- ذات شقين:
• الشق الأول، هو توزيع الرخاء المادي بشكل غير متساوٍ في جميع أنحاء العالم إلى حد يكاد يكون إجرامياً.
• أما الشق الثاني، فهو أن الثروة المادية لا تجعل الناس سعداء في عالم يسيطر فيه البعض على مقاليد الأمور، ويتفننون في إيجاد الطرق التي يسلبون بها الراحة والطمأنينة من الناس.
• يقدم ديلونغ بعض الأفكار المثيرة للاهتمام حول دفع مسيرة النمو الاقتصادي، منها على سبيل المثال، أن مصدر الطفرة الكبيرة في الرخاء كان بلوغ مرحلة العولمة الكاملة ومختبر البحوث الصناعية ومفهوم الشركة الحديثة عام 1870.
• تتمثل إحدى نقاط القوة في الكتاب في رسم خرائط للأشياء الغامضة التي ما زلنا لا نفهمها، مثل سبب بطء انتشار التصنيع في أميركا الجنوبية وإفريقيا.
• كما يقدم ديلونغ بعض الرسومات التمثيلية لتوضيح بعض القصص المحزنة للتخلف في الهند ومصر والصين.
• والمصير الأكثر حظاً لليابان في القرن التاسع عشر، وإخفاقات ما بعد الحرب العالمية الثانية في نيجيريا والأرجنتين وإيران.
• إن صورة ديلونغ للرأسمالية الحديثة متوازنة بشكل مثير للإعجاب، حيث تدرك الابتكار المذهل الذي أنتجته وإخفاقاتها الكبيرة أيضاً.
• وأصبحت الوظائف أقل أماناً، ولم تعد الشهادة الجامعية تضمن مكانة الطبقة المتوسطة بشكل موثوق.
• الحل الواضح هو معرفة كيفية إعادة توزيع المكاسب دون إبطاء النمو.
• الكتاب جيد بشكل خاص في شرح مفاهيم الاقتصاد الكلي الغامضة. على سبيل المثال، يقدم ديلونغ حجة مقنعة مفادها أن ما حدث من 2007 إلى 2009 كان «كساد مينسكي» -على اسم الاقتصادي هيمان مينسكي- حيث يؤدي نقص الأصول الآمنة إلى أزمة ثقة.
• ويرى أنه لن تكون السيطرة الديموقراطية الحقيقية على الاقتصاد ممكنة، حتى يتم تسليح الطبقات الدنيا التي يريد الاقتصاديون مساعدتها ببعض وسائل الدفاع ضد العلاجات الزائفة.
• وقد أصبحت المؤسسات التي كانت تتوسط بين المواطنين الأقل تعليماً، وحكومتهم مهمشة وأصغر مما كانت عليه في السابق.
• كذلك، فإن تراجع النقابات العمالية على مدى العقود العديدة الماضية لم يؤد إلا إلى تعميق حالة عدم المساواة الاقتصادية، وتعزيز نمو الاحتكارات الجديدة، وتفاقم القوة السياسية غير المتناسبة للأغنياء.
• سيستمر هذا الانحراف في السياسة قائماً، حتى تتطور مراكز جديدة للمعلومات والتنظيم السياسي تمثل مصالح الأشخاص غير الأغنياء.
• لذا يحتاج الاقتصاديون إلى مؤسسات تستثمر في تعزيز الوضوح والشفافية، في مواجهة جميع المؤسسات التي تعمل على تعميق حالة الارتباك وتأجيج الغضب، ولا شك في أن كتاب ديلونغ هو خطوة صغيرة في هذا الاتجاه.
• وهو لا يستهدف الطبقة العاملة، ولا الاقتصاديين المحترفين، لكن يستهدف شريحة أكبر من الجمهور- على وجه التحديد القراء الذين يحتاجون إلى أن يصبح الاقتصاد أقل غموضاً بالنسبة لهم.