في الأيام التي أعقبت وفاة «سينيد أوكونور»، تدفق سيل من المديح للمغنية الأيرلندية، وأشارت التقارير الإخبارية ومقالات الرأي في وسائل الإعلام الرئيسة في الولايات المتحدة وأيرلندا إلى صوتها الشجاع، وأحد الدروس المستفادة من حياة «سينيد» وردود الفعل على وفاتها هو أهمية دعوة المؤسسات والأمم إلى محاسبة خطايا الماضي والفوائد التي تعود على الأجيال القادمة من مثل هذه الحسابات، والقضايا التي دافعت عنها «سينيد» بشدة كان لها قاسم مشترك واحد، وهو قلقها من الظلم، وأيرلندا بلد يغلب عليه الكاثوليكية لكنها تفهمت غضب «سينيد».

وكانت زوجتي إيلين شديدة التعلق بتراثها الأيرلندي وإيمانها الكاثوليكي، وذهبنا إلى جزيرة إميرلد (بولاية نورث كارولاينا) في زيارات كثيرة، وذات مرة كنا هناك في أوائل التسعينيات وكانت الصحف تمتلئ بقصص مغسلة المجدلية، وهي البيوت التي أُرسل إليها «الأطفال الجانحون» والنساء الحوامل غير المتزوجات وتعرضن للإيذاء والعبودية القسرية، ونشرت الصحافة الأيرلندية صوراً ومقابلات مع نساء شرحن بالتفصيل الانتهاكات التي تعرضن لها وآلام خسارتهن، وقصص الأمهات اللائي لقين حتفهن أثناء الولادة والأطفال الذين لقوا حتفهم (ستة آلاف إجمالاً) ودفنوا في مقابر جماعية، وفي سن الـ14 عاماً، حُكم على «سينيد» بالسجن 18 شهراً في «مغسلة مجدلية»، ولذا كانت تعرف عن كثب إهانة السجن، ولأن وسائل الإعلام والقادة السياسيين الأيرلنديين لم تترك الأمر يهدأ، انضم إليها كثيرون من الكاثوليك ليشاركوها غضبها.

Ad

وألقيت المسؤولية على عاتق الكنيسة الكاثوليكية في أيرلندا عن ماضيها وما زالت موضع لوم للذات بسبب هذا الحساب، وفي الوقت الذي يتم فيه تكريم إرث سينيد في المطالبة بالمساءلة عن مظالم الماضي، لا يسع المرء إلا أن يقارن هذا بقصص الأخبار الأميركية الأخيرة التي تظهر ساسة أميركيين وأساقفة كاثوليك أميركيين يرفضون الاعتراف بماضي بلادهم وكنيستهم ويسعون إلى محوه.

وعلى سبيل المثال، يطالب الحكام «الجمهوريون» والمسؤولون المنتخبون الآخرون في فلوريدا وتكساس وفيرجينيا بتغييرات في طريقة تدريس تاريخ أميركا المؤسف في العبودية والعنصرية في المدارس، وفي محاولة لتزيين العبودية، يتم تصويرها على أنها وقت تعلم فيه بعض السود المهارات التي أفادتهم بعد العبودية، واُستبعد سرد تفصيلي لأهوال الفصل العنصري في ظل قانون «جيم كرو» وعمليات الإعدام الجماعية التي أودت بحياة الآلاف.

إنهم يريدون ماضيا خاليا من الذنب وبلا مساءلة،   والانتهاكات ليست غريبة على الكنيسة الكاثوليكية الأميركية (أو، في هذا الصدد، الطوائف البروتستانتية الأميركية أو المؤسسات اليهودية)، فما زال هناك تقارير تسرد لنا قصصاً مروعة عن انتهاكات منتشرة على نطاق واسع، وسرعان ما يتم نسيانها، بعد أن يتخلص الزعماء الدينيون من الاتهامات من أجل «حماية مؤسساتهم»، أو يغيرون الموضوع من خلال التأكيد على أن «المشكلات الحقيقية» هي الإجهاض أو غيره من قضايا الزواج، وفي حين أُجبرت أيرلندا وكنيستها على التصالح مع الماضي، لم تتصالح أميركا ومؤسساتها تماماً مع خطاياها وتتحرك في الاتجاه المعاكس.

فالدولة الوحيدة التي استخدمت الأسلحة النووية، فعلت ذلك من دون إخبار اليابانيين بالتأثير الطويل المدى للإشعاع على المدنيين، وبإلقاء ملايين الأطنان من القنابل على فيتنام وأفغانستان والعراق، أصبحنا نحمل ذنب ملايين الأبرياء، وفي العقد الماضي، استخدمنا صوراً بشعة من التعذيب لانتزاع المعلومات من السجناء وسوغناها بـ«مذكرات قانونية» مفصلة وبشعة كتبها مسؤولو إدارة بوش، وعلى الرغم من هذا التاريخ البشع، نتمسك بادعاءاتنا بالبراءة وحقنا في أن نكون حاملي لواء الفضيلة.

وينشأ هذا الشعور بالإفلات من العقاب من عدم إجبارنا قط على إعادة النظر في ماضينا والاعتبار منه، كما أُجبرت أيرلندا والكنيسة الكاثوليكية الأيرلندية على فعل ذلك، وهذا، إذاً، هو الدرس المستفاد من حياة وموت «سينيد أوكونور»: أهمية دعوة الدول والمؤسسات للاعتراف بتحمل المسؤولية عن ماضيها، ومحاسبة الذات وفتح المجال لإمكانية تغيير السلوك الذي يمكن أن يصاحب هذا الاعتراف.

*رئيس المعهد العربي الأميركي في واشنطن.