في الذكرى السنوية لإصدار الدستور الكويتي المحتفى به تكراراً منذ تاريخ وضعه في 11/11/1962، يليق بهذه الوثيقة العليا استعادة ما تضمنته من اتجاهات وسطية تجلّت بداية في التوافق الديموقراطي بين رؤية الحاكم ومتطلبات المحكومين على وضع دستور عصري بأسلوب التعاقد، ومن ثم في عدد ملحوظ من الأحكام التي من شأنها- وفق تعبير الخبير الدستوري الدكتور محمد المقاطع- أن تمنع الإفراط أو التفريط الذي قد يأتي من أي طرف من الشعب أو الأسرة الحاكمة أو السلطات فيما هو محدد لكل منهم من دور واختصاصات وصلاحيات في إدارة الدولة.

لقد حُبك النظام الدستوري الكويتي بكثير من الدقة التي تتناغم مع الواقع وبعميق من الوعي الذي يستشرف المستقبل، فتبنى الدستور منهج الوسطية بين طموحات الشعب المجبول على الديموقراطية والتواق الى العصرنة والمتمسك بتراثه وعقيدته الإسلامية- من جهة- ومستلزمات استقرار الحكم ومقتضيات التوازن اللازم لتطور الدولة، من جهة أخرى، فكان وضع الدستور امتثالاً لقوله تعالى: «وشاورهم في الأمر» واستشراقاً لمكانة من كرّمهم في كتابه العزيز بقوله: «وأمرهم شورى بينهم» وتأسّياً بسنّة رسوله، صلى الله عليه وسلم، في المشورة والعدل، ومتابعة لركب التراث الإسلامي في بناء المجتمع وإرساء قواعد الحكم، وبرغبة واعية في الاستجابة لسنّة التطور والإفادة من مستحدثات الفكر الإنساني.

لقد فرضت مقتضيات «العقد الاجتماعي» نفسها على النظام الدستوري الذي عكفت على وضعه لجنة مختصة توزان فيها وجود ممثلين للأسرة الحاكمة مع ممثلين للشعب الكويتي، فبرز نهج الوسطية واضحاً في عدة نصوص لا مجال لذكرها بشكل تفصيلي اكتفاء بالإضاءة على بعض الاتجاهات العامة ذات الصلة بالإطار الدستوري لعمل السلطات السياسية، وبالمبادئ الأساسية للحقوق والحريات، وبالتوجهات الاجتماعية والاقتصادية الملائمة للمجتمع الكويتي. ففي مجال اختيار النظام الدستوري المناسب لإدارة شؤون الدولة، تشير المذكرة الإيضاحية الى تلمّس الدستور في النظام الديموقراطي الذي تبناه «طريقاً وسطاً بين النظامين البرلماني والرئاسي مع انعطاف أكبر نحو أولهما» بهدف ألا يفقد الحكم طابعه الشعبي في الرقابة البرلمانية أو يجافي التراث التقليدي في الشورى وفي التعقيب السريع على أسلوب الحكم وتصرفات الحاكمين.
Ad


من جانب ثان، وفي عصر كانت فيه شعارات الوحدة العربية طاغية والنزعة التحررية والقومية تداعب المشاعر، وُفّق الآباء المؤسسون الى صياغة نظام دستوري وسطي يوازن بين الموروثات والطموحات ويتعامل بمرونة مع المعطيات والمتغيرات، مكرساً الوسطية بين الاعتزاز بالانتماء الإسلامي والهوية الكويتية من جهة، وبين العروبة والانفتاح على العالم من جهة أخرى، وهذا ما تشير اليه على سبيل المثال المادة (12) التي بموجبها «تصون الدولة التراث الإسلامي والعربي وتسهم في ركب الحضارة الإنسانية»، وكذلك المادة (157) التي من باب التأكيد على أن «السلام» هو هدف الدولة، توازن بين «سلامة الوطن» التي تعتبرها أمانة في عنق كل مواطن، وضرورات الالتزام بـ«سلامة الوطن العربي الكبير». وفي مجال المبادئ الأساسية والحقوق والحريات، حرص الدستور الكويتي في بابيه الأول والثاني على إظهار واجبات الدولة كراعية لمواطنيها مقابل التزام المواطنين والناس بشكل عام بواجباتهم القانونية والأخلاقية، فلا حرية دون قيد، ولا مواطنة دون واجب، ولا حق دون ضوابط، وذلك ما عبّرت عنه المادة (49) بتوجيه عام مفاده أن «يراعي الناس في ممارسة ما لهم من حقوق وحريات النظام العام والآداب».

وفي السياق الاجتماعي، وازن الدستور بين واجبات الدولة وواجبات الأفراد والمجتمع، فجعل التنمية والتطوير والاستقرار المجتمعي مسؤولية جماعية، تتحمل السلطات الدستورية الجزء الرعوي والتنظيمي منها، في حين يتحمل الناس والمجتمع بشكل عام واجب التعاون والتضامن اللازمين، وليس أدلّ على ذلك من منطوق المادة (25) التي تنص على أن «تكفل الدولة تضامن المجتمع في تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة»، مما يوحي بأن التكافل الاجتماعي- ولاسيما في أوقات المحن والأزمات- يقوم على نهج متوازن بين مسؤولية الدولة الراعية ومسؤولية المجتمع المتعاون في السراء والمتكافل في الضراء، وهذا ما يتجلى أيضاً في نص المادة (7) التي تؤكد أن التعاون والتراحم صلة وثقى بين المواطنين، الأمر الذي يتكامل مع نص المادة (8) التي تضيء على واجب الدولة بصيانة دعامات المجتمع وكفالة الأمن والطمأنينة وتكافؤ الفرص للمواطنين.

وفي الشأن الاقتصادي، وازنت المادة (16) بين حق الفرد بالملكية ورأس المال وحق العمل من جهة وبين الوظيفة الاجتماعية لكل من هذه الحقوق من جهة أخرى، وذلك باعتبارها من المقومات الأساسية لكيان الدولة الاجتماعية وللثروة الوطنية، وفي تعقيب المذكرة الإيضاحية على هذه المادة ورد أنه «يلاحظ أن هذا النص إنما يحدد مكان المجتمع الكويتي من التيارات الاجتماعية والاقتصادية التي تتنازع العالم في العصر الحاضر»، جاعلاً من هذا المجتمع في منطقة وسطى تحصّنه من الانحراف نحو الرأسمالية المتطرفة التي يمثّلها الاستخدام المجحف لحقوق الملكية ورأس المال، وتمنعه من الانجراف نحو الاشتراكية المفرطة التي لا تعترف بالحقوق المالية الفردية ولا تقتنع برسالتها الاجتماعية في تأمين التكافل المجتمعي وتكريس العدالة الإجتماعية.

* كاتب ومستشار قانوني