لم تكن الكويت أرضاً جاذبة قبل 400 عام عندما اهتدت إليها مجموعة العتوب التي ارتحلت من منطقة إلى أخرى، خلال مئة عام قبلها، باحثة عن أرض تستقر وتعيش عليها، ووطن تأمن فيه على أبنائها ونسائها، ولقمة عيش حلال تأكلها من دون نزاع أو قتال. استقروا في أرض الكويت وتكونت النواة الأولى لدولة فتية، وبدأوا في تأسيس التجارة التي هي أساس كل مجتمع وتجمع.
كان الغوص في أعماق البحر بحثاً عن اللؤلؤ هو النشاط الأول الذي مارسه أهل الكويت وبرعوا فيه مما اجتذب الناس من حولهم شيئاً فشيئاً، فاتسعت الكويت أرضاً وازدهر شعبها. ولكي أوضح طبيعة هذه المهنة، وعلاقتها بموضوعنا وهو «هل ننسى دورهم»، سأتحدث بالتفصيل عن كيفية ممارستها قديماً.
يعتقد البعض أن الغواويص (أي الغاصة) وغيرهم من البحرية هم موظفون على ظهر السفينة يأخذون رواتب متفقاً عليها ويمارسون وظائفهم المحددة، وهو أمر غير صحيح. الصحيح، كما أعرف من خلال المصادر العديدة، هو أن هناك تاجراً، ونوخذة، وطاقماً للبحارة، وكلهم شركاء في «الطَرْشَة»، أي الرحلة الواحدة، وكل له حصة ثابتة (تسمى قلاطة) من صافي الأرباح. والطرشة يتم الاستعداد لها أولاً بالتعاقد بين مالك السفينة والنوخذة والمجدمي (رئيس البحرية)، ثم يقوم المالك بتجهيز السفينة وإعدادها للإبحار وتمويلها بالمواد الغذائية والاحتياجات الأخرى، ثم يتم التعاقد مع البحرية بأنواعهم واختصاصاتهم.
كل ذلك يتم على أساس حسابات مسجلة ومعتمدة من المالك والنوخذة والمجدمي، ويستمر تسجيل كل التكاليف أثناء الطرشة وحساب اللؤلؤ ومبيعاته بعد الطرشة، ثم يتم بعد ذلك تسوية الميزانية النهائية، ويتم تسليم مالك السفينة حصته (قلاطته) المتفق عليها من الأرباح وإعادة السفينة إليه، وتسليم النوخذة والبحرية حصصهم طبقاً لما هو متفق بينهم، وتسليم الحاكم حصته كذلك.
وكان هناك قانون عرفي مفصل (طبعه الشيخ أحمد الجابر عام 1940) وخبراء يُرجع إليهم للفصل في النزاعات إذا وقعت، وقراراتهم لها احترام كبير وكأنها أحكام نهائية من محكمة التمييز.
وهنا يجب أن أتوقف قليلاً وأقول: مئات السفن الكويتية، وكل سفينة عليها 30 أو 40 بحاراً، وموسم للغوص سنوياً، وأمير للغوص، وكل ذلك يتم في شكل منظم وبعدالة تامة وبانسيابية واضحة ولمدة قرون من الزمان.
والسؤال الذي يفرض نفسه الآن هو: كيف ننسى دور هؤلاء جميعاً؟ كيف ننسى دور التاجر الذي صرف أمواله لتوفير السفينة (التي تعادل قيمتها مجمعاً تجارياً فاخراً اليوم) وتجهيزها والمخاطرة بها في أعماق البحار وسط الأمواج العاتية والعواصف المرعبة؟! كيف ننسى دور النوخذة الذي قاد السفينة الشراعية وطاقمها بسلام وأمان وعبر بها البحار وأشرف على عمل الغواويص والعثور على اللؤلؤ لكي يعود إلى الكويت وفي حوزته الكنوز التي عثر عليها رجاله ليعيش على ريعها التاجر والبحار ومعظم أهل الكويت وحتى حكومة البلاد؟! كيف ننسى دور البحّار الذي لم يكن يأكل إلا وجبة واحدة في اليوم على ظهر السفينة وقليلاً من القهوة والماء ليعمل بهمة ونشاط ليعثر على اللؤلؤ وهو لا يدري هل يعود إلى أسرته وأهله أو لا يعود؟! كيف ننسى دورهم لإعالة أسرهم وأهلهم في مهن صعبة وخطيرة مارسوها عقوداً طويلة دون ملل أو كلل؟! كيف ننسى دورهم في توفير لقمة العيش الحلال لعائلاتهم التي استمرت ذريتها إلى اليوم؟!