ظل الدولار الأميركي متربعا على عرش العملات عالميا على مدار عقود، لكن محاولات إنهاء هيمنته على المعاملات التجارية الدولية تتصاعد وتيرتها من حين لآخر.

«هدف إنهاء الاعتماد على الدولار في علاقاتنا الاقتصادية لا رجعة فيه»، هكذا تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمة مسجلة شارك بها في قمة تكتل الاقتصادات الناشئة الرئيسية «بريكس»، التي استضافتها جوهانسبرغ الأسبوع الحالي وشارك فيها قادة الصين والهند والبرازيل وجنوب افريقيا.

لكن سقف طموحات الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا بدا أعلى، إذ حث قادة التكتل على إنشاء عملة مشتركة لتستخدم في التبادل التجاري في ما بينها.
Ad


ولا يمكن إغفال أهمية اقتصادات «بريكس»، فأعضاء التكتل حاليا يمثلون أكثر من 40 في المئة من سكان العالم ونحو 25 في المئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. كما وجهت الدعوة لست دول أخرى للانضمام إليه، ومن بينها حلفاء للولايات المتحدة، مثل السعودية والإمارات.

ولكن الإطاحة بـ «ملك العملات»، الذي يحوز نصيب الأسد في الاحتياطي النقدي العالمي منذ الحرب العالمية الثانية، يحتاج إلى إجراءات واسعة كي يصبح واقعا ملموسا، وإلا بقي مجرد أمنيات تراود أفكار أصحابها.

ما أهمية الدولار في الاقتصاد العالمي؟

مع أن حصة الدولار من احتياطي النقد الأجنبي لدى المصارف المركزية حول العالم تراجعت، إذ أفادت تقارير دولية بأنه سجل نسبة 58 في المئة خلال الربع الأخير من العام الماضي، ليبلغ أدنى معدل له على مدار عقدين، يتوقع خبراء أن تظل اللاعب الرئيسي بين عملات الاحتياط النقدي عالميا خلال العقد المقبل.

وكما تبين منذ انحسار أزمة تفشي وباء كورونا، فإنه عندما يقرر المسؤولون في الولايات المتحدة رفع أسعار الفائدة، فإن صدى ذلك يتردد في دول أخرى.

وتحرص البنوك المركزية في أنحاء العالم على تعزيز احتياطي النقد الأجنبي لديها كي تستخدمها في معاملات تجارية دولية وللتعامل مع أي أزمات اقتصادية قد تواجه اقتصادات بلدانها.

ويستخدم الدولار الأميركي لتسعير بعض السلع الأساسية في العالم، ومن بينها النفط. ولذا، فإنه إذا تراجعت قيمة العملة المحلية لدولة ما بنسبة كبيرة أمام الدولار، تصبح السلع التي تُسعر بالدولار أكثر تكلفة، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع تكاليف المعيشة ومعدلات التضخم.

كما يميل المستثمرون إلى شراء الدولار عندما يعاني الاقتصاد العالمي من ضغوط، فالعملة الأميركية تعد «ملاذا آمنا» في أوقات الأزمات، لأن اقتصاد الولايات المتحدة هو الأكبر في العالم.

لماذا ترغب بعض الدول في تقليل الاعتماد على الدولار؟

بعض الدول النامية ترى أن هيمنة الدولار على المعاملات التجارية تضر باقتصاداتها، وتخشى أن يؤثر تقلب سعره على الاستقرار الاقتصادي لديها، ومن ثم فهي تعمل على تغيير الوضع القائم منذ عقود طويلة.

فروسيا، على سبيل المثال، واجهت صعوبات كبيرة بعد العقوبات الغربية عليها وإقصائها من المنظومة المالية العالمية العام الماضي إثر غزو أوكرانيا العام الماضي. ويقف ذلك وراء رغبة بوتين القوية في التخلص من الاعتماد على الدولار.

وقبل أشهر قليلة، حذرت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين من أن العقوبات الغربية على موسكو ربما تشكل خطرا على هيمنة الدولار.

أما الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فتعمل منذ أمد من أجل زيادة استخدام اليوان في المعاملات التجارية الخارجية، بهدف تعزيز أهمية عملتها دوليا.

ويرى الرئيس البرازيلي أن الدول التي تستخدم الدولار يجب ألا تجبر على اعتماده في المعاملات التجارية. وقال لولا دا سيلفا أثناء مشاركته في قمة بريكس إن اعتماد عملة مشتركة بديلة تستخدمها دول التكتل «تزيد من خيارات الدفع وتقلل المخاطر المحتملة».

ولا يقتصر الأمر على هذه الدول، فقد أبدت السعودية، الغنية بالنفط، أيضا انفتاحا على فكرة استخدام عملات أخرى إلى جانب الدولار.

كما أخذت بعض البلدان إجراءات من أجل تعزيز استخدام العملات المحلية. فعلى سبيل المثال، أعلنت الإمارات والهند في يوليو الماضي عن اتفاق بشأن استخدام الدرهم الإماراتي والروبية الهندية في المعاملات بين الجانبين.

هل يواجه الدولار خطرا؟

في الواقع تواجه محاولات تقليل الاعتماد على الدولار في التعاملات التجارية بين الدول تحديات عدة. فما يعرف بـ «إلغاء الدولرة» في الاقتصاد العالمي يحتاج إلى توافق على نطاق واسع بين مصدرين ومستوردين ومؤسسات مالية حول العالم على استخدام العملات المحلية، أو عملة بديلة - وهي أمر مستبعد في المدى القريب.

ولا تزال فكرة عملة مشتركة لدول بريكس، مجرد اقتراح ولا يوجد توافق عليه أو آلية واضحة لتطبيقه. وربما يكون الرئيس البرازيلي وحده أبرز المتحمسين لها، فقبل قمة بريكس الأخيرة، قال المنظمون إن مقترح العملة المشتركة لم يدرج على أجندتها.

كما أن اقتصاد الولايات المتحدة هو الأكبر في العالم، ولذا فإن عملتها تعد ملاذا آمنا بالنسبة لكثير من المستثمرين.

لكن مسؤولين أميركيين يدركون أن الدولار يواجه مستقبلا محفوفا بالمخاطر بسبب العقوبات المالية التي تفرضها واشنطن على دول أخرى، في بعض الأحيان، إذ توجد مخاوف من أن يعطي ذلك دفعة للبحث عن بديل، وهو ما يقوض هيمنة الدولار على المدى البعيد.

ويتوقع خبراء أن يظل الدولار يلعب دورا محوريا في الاقتصاد العالمي خلال الأعوام المقبلة، رغم التحديات الماثلة. وترى وكالة موديز أن هيمنة الدولار الأميركي على التجارة الدولية والتمويل مستمرة لعقود، حتى لو ظهرت منظومة تعتمد على عملات متنوعة.

وعليه، فإنه في غياب بديل قوي للدولار، كما هو الحال في الوقت الراهن، سيظل «ملك العملات» في مأمن.