من وحي عيد استقلال أوكرانيا
كنت في العاشرة من عمري عندما استعادت أوكرانيا استقلالها في عام 1991 بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، واستقبل والدي هذا الحدث في الخارج حيث كان في واحدة من أكثر الدول تقدماً في العالم في برنامج التبادل الأكاديمي، مثل بطل توم هانكس في فيلم «المحطة» لم يستطع الأب العودة لبعض الوقت منتظراً إصدار المستندات الجديدة، عُرض عليه البقاء ووُعد بوظيفة وسكن ومساعدة لعائلته، رغم أن عائلتنا في ذلك الوقت عاشت بشكل متواضع للغاية ولم يعرف أحد ما الذي يخبئه لنا المستقبل رفض والدي وعاد إلى الوطن الأم، إلى أوكرانيا.
في ذلك الوقت عام 1991، مثل ملايين الأوكرانيين، وثق والدي بأن الفرصة قد حانت أخيراً لبناء مستقبل بلده بشكل مستقل، وبالتأكيد لا يمكن أن يكون أسوأ مما كان عليه خلال فترة الاتحاد السوفياتي، باقتصاده غير الفعال ونظامه السياسي الفاسد وهولودومور وتشيرنوبيل وحرب لا معنى لها في أفغانستان.
على مدى ثلاثة قرون حاول الأوكرانيون مراراً وتكراراً التحرر من المستعمرين الروس وبناء حياتهم دون تأثير وضغوط هذا الجار العدواني، وهنا جاءت هذه الفرصة.
قبل 32 عاماً، في الاستفتاء صوت 90 في المئة من الأوكرانيين لاستقلال أوكرانيا، ودعم سكان جميع مناطق أوكرانيا، بما في ذلك القرم، مساراً مستقلاً للتنمية، واختار الأوكرانيون التنمية السلمية المستقلة عن طريق ممارسة الحق نفسه مثل أعضاء الأمم المتحدة الآخرين، وتم الاعتراف بسيادة أوكرانيا وحدودها من قبل جميع أعضاء الأمم المتحدة، بما في ذلك روسيا.
خطوة بخطوة وسنة بعد سنة، استثمر آباؤنا في تنمية أوكرانيا من أجل مستقبل أفضل لأطفالهم، وعندما أصبح نجاح أوكرانيا في بناء دولة ناجحة عادلة مع اقتصاد السوق أمراً لا رجوع فيه، أخاف هذا النجاح النظام في روسيا، وقررت موسكو أن تحاول مرة أخرى استعمار دولة مجاورة حتى لا تسمح للأوكرانيين بالتحرر من القمع الروسي إلى الأبد، فجاءت حرب قاسية ووحشية وعديمة الرحمة من روسيا إلى أوكرانيا، عن طريق شن حرب ضد أوكرانيا، وتحدت روسيا ميثاق الأمم المتحدة الذي يحدد حرمة وحدة الأراضي والسيادة الوطنية ويضمن لجميع الدول التعايش السلمي والتطور.
إن حرب روسيا ضد أوكرانيا هي مواجهة بين أخلاقيات السلوك المتحضر في القرن الحادي والعشرين وأكل لحوم البشر، وبين حق جميع الدول في تنميتها الذاتية والعيش السلمي بغض النظر عن حجم الدولة وتعدي المستعمرين على الأراضي الأجنبية.
تسعى أوكرانيا إلى التطور السلمي والمضي قدماً مع العالم بأسره، ونحن ممتنون لجميع أعضاء المجتمع الدولي الذين دافعوا عن الأوكرانيين ويساعدون في البقاء على قيد الحياة، نحن ممتنون لدول الخليج لا سيما المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين والشركاء الآخرين في المنطقة لدعمها قرارات الأمم المتحدة التي تحمي مبادئنا المشتركة المتمثلة في السيادة وحرمة الحدود، كما يشعر الأوكرانيون بالامتنان للدعم الإنساني السخي المقدم الذي يساعد في تخفيف معاناة السكان المدنيين بخاصة الأطفال والأمهات.
دفاعاً عن حقهم في التنمية يدافع الأوكرانيون عن حقوق جميع الدول التي تتشارك هذه المبادئ، هذه هي النقاط العشر المدرجة في صيغة السلام التي اقترحها رئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي والتي ستصبح أساساً لاستعادة القانون والنظام العالمي والأمن والعدالة.
ولهذا السبب من المهم للغاية لجميع الدول المتحضرة أن تتحد حول دعم أوكرانيا، وإلا فإن مثل هذه الحرب قد تطرق أبواب البلدان الأخرى غداً، ويمكن سماع هذه الطرقة بالفعل من خلال التهديدات بحدوث كارثة نووية وابتزاز الطاقة وأزمة الغذاء العالمية التي خلقتها موسكو بشكل مصطنع من أجل إملاء إرادتها على بلدان الجنوب العالمي التي تعتمد على الحبوب الأوكرانية مقابل لقمة العيش.
خلال سنوات الاستقلال أثبتت أوكرانيا دورها كعضو مسؤول في المجتمع الدولي، إن حقيقة التنازل الطوعي لأوكرانيا عن الأسلحة النووية في عام 1994 مقابل ضمانات أمنية من الدول النووية بما في ذلك روسيا هي المثال الساطع على الإسهام في الأمن العالمي، على رغم تدمير موانئنا ومخازن الحبوب وتلغيم الأراضي الزراعية، وتعمل أوكرانيا جاهدة لاستعادة مبادرة الحبوب لتعزيز الأمن الغذائي العالمي.
يريد الأوكرانيون التركيز على التنمية الاقتصادية وتطوير التقنيات الحديثة مثل جميع الدول المتحضرة الأخرى في القرن الحادي والعشرين، عصر الذكاء الاصطناعي وسيارات الأجرة الجوية والترابط الاقتصادي العالمي، والعمل على تقليص الفجوة بين البلدان المتقدمة والدول النامية ومحاربة التحديات العالمية معاً.
يطمح الأوكرانيون للعيش في منازلهم بسلام وبناء مستقبلهم، حيث يمكن للأطفال الدراسة بأمان واللعب في الملاعب والتعرف إلى العالم وعدم الاختباء من الصواريخ في أقبية رطبة وباردة، حيث يمكن للمسنين الاستمتاع بالشيخوخة والاعتزاز بأبنائهم وأحفادهم بدلاً من الموت في مواقف الحافلات بسبب القصف الروسي.
حلم الملايين من الآباء والأطفال بمستقبل سلمي ومشرق في عام 1991، وما زالوا يحلمون ويدافعون عن حقهم في العيش كل يوم.
بعد 32 عاماً من قرارهم بالعودة إلى أوكرانيا، في بداية العدوان الروسي الشامل في فبراير 2022، رفض والداي الإخلاء رغم الخطورة الحقيقية بالوقوع تحت الاحتلال الروسي والقتل، مثل ملايين الأوكرانيين الذين ما زالوا يؤمنون بالعدالة ويكافحون من أجل انتصار أوكرانيا والسلام.
اليوم، بغض النظر عن العمر، يحتفل الأوكرانيون بفخر بعيد استقلال أوكرانيا القوية والحرة التي لا تقهر، وسيأتي هذا النصر بالتأكيد.
عيد استقلال سعيد يا أوكرانيا!
* ديمترو سينك سفير أوكرانيا لدى الإمارات العربية المتحدة