وقلبك يعصره وجع الفقدان... اكتبي.
وهمك يصبح أكبر من حجم تلك الغيمة البعيدة في جحيم صيف 2023... اكتبي.
وأنت تمسكين بيده وهو ممدد فوق سرير ليس سريره في غرفة العناية الفائقة... اكتبي.
والصور تتداعى بل تعود لها الحياة بقدرة قادر من صنعاء إلى القاهرة مروراً ببيروت... اكتبي.
وهو مستلقٍ هناك على سرير بارد جداً وأنت تعلمين أنه يكره البرودة أو اللا لون أو اللا رائحة... اكتبي.
وصوت صديقي العابر للحزن والوجع يبدو أكثر قرباً من كثيرين هنا ليردد هو أكثر حياة... اكتبي.
وصور كثيرة من هنا وهناك وآخرها معاً بعد انفجار بيروت في مكتبه، وهو يعلمني فن الحياة دون أن يلقنها... اكتبي.
وأنت تتلقين الخبر المتوقع في رسالة قصيرة وشديدة الحيادية «البقية في حياتك»... اكتبي.
وأنت تعلمين أنه في موته وحياته حضور... اكتبي.
وهو في موته الحي في زمن الأموات بل الأحياء المتجولين بين الأسطر... اكتبي.
كنتِ بحاجة إلى الوقت كعادتك في التعامل مع الوجع الكبير والفرح الكبير أيضاً، بعض الوقت أو كثيره ولكن لا وقت وأنت تريدين كما وقفتِ عند حافة سريره الأبيض كقلبه تنادينه أن يعود ويستفيق، ويفتح عينيه وتعيدان معاً تلك الحوارات المفعمة بالأمل حتى عندما كانت السماء تمطر ماء بلون الليل.
من أين له كل هذه القدرة على الابتسامة، بل الضحك في الأوقات العصيبة، وهو يواجه وحيداً رياحاً وعواصف؟ هو الذي عرف بل تصادق مع الموت مراراً، ألم تطارده أشباحهم وقنابلهم ومفخخاتهم حتى بقي على وجهه بعض من آثارها، كيف يقوم المرء من الموت بحثاً عن الحياة لأن على «هذه الأرض ما يستحق الحياة»، وهو الذي ضحك كثيراً وأنت تحدثينه عن جراح ما بعد الانفجار ويروح ليقارن الندب على وجهه ووجهك؟!
لا أعرف كيف أطرز له كلمات وهو غائب، لأقول الكثير الذي ربما قلته في ذلك اللقاء ولقاءات أخرى قبله وبعده، أو لم أقله فقط لأنه لا متسع عنده، هو المهموم بنا وبهم، وبكل الذين كتمت أصواتهم أو غيبت، هو صوتهم وصوتنا من لبنان إلى الوطن العربي، هو الذي احتضن الصحافيين المبتدئين منا كما قضايانا الصغيرة في مقابل وطنه الذي كانت المفخخات فيه أكثر من علب الأدوية.
أكتب وهو الذي علمني فن تطريز الحرف وتلحين الكلمة، هو الآن غائب، ربما، إلا أن حضوره منذ خبر رحيله باهر بل طاغ على كثير من الحاضرين الغائبين، كيف لا والرسائل تأتي تباعا تتساقط من أشجار كثيرة من مدن وقرى بعيدة من الوطن العربي، الذي قال إن «السفير» هي جريدته في لبنان، وجريدة لبنان فيه؟ ومن أصوات كثيرة أحبته لأن له شرف محاولة أن يكون صوتها الذي خنق بين كثير من الكونكريت والنفاق المتعفن في رحم الأنظمة؟
هو الذي خلق مدرسته الخاصة في الحوار مع سياسيين تدربوا على المراوغة إلا من أسئلته وملاحظاته ونظراته الثاقبة التي لا تخيب، ولم تخب أبداً في فهم ما خلف الابتسامة والكلمات المنمقة والمديح الممجوج.
وعندما كتب الكثيرون وسريعاً أيضاً، أي بعد سماع الخبر بلحظات، عدت لشكي في نفسي الذي قال عنه هو يوماً، أستاذي ومعلمي وصديقي الأستاذ طلال سلمان، قال متى ستتوقفين عن هذه الهواجس أو تتعافين من مرض الوسواس القهري لدى الصحافيين من تلامذته، في حين يهمس في الجلسات الهادئة برفقة الصحبة المحببة إلى قلبه بأنه هو الآخر يتوقف أحياناً عند تفصيل الحرف واللفظ، ويراجع ثم يراجع وكثيراً ما يقول بعد قراءة المقالة على صفحات الجريدة مع قهوة الصباح «ربما كان أفضل أن أستخدم هذه الكلمة أو ذاك التعبير»، الأستاذ طلال الذي يقول علينا دوماً أن نكون مخلصين لتلك المهنة التي هي عشقنا الأزلي.
وهو الذي يعرف تضاريس المنطقة ليس المتعارف منها بل تلك الأكثر عمقاً وصعوبة في الملامسة وبذاك الحس نفسه، قال لي وأنا أودعه مع رحيلي من بيروت إلى القاهرة بدواعي عملي الجديد، قال «لا تحزني على الفراق فإنك ستشهدين ثورة في مصر»، وقبل أن يكمل جملته كنت قد صرخت «أي ثورة أستاذ طلال أي ثورة؟»، و... و.... ومضت أيام وأسابيع وأشهر وبعد عام أو أقل وعند ساعات المغرب الأولى وعلى مدخل كوبري قصر النيل من ناحية ميدان التحرير اتصلت به وهو في مكتبه يدخن سيجارته ويرشف فنجان قهوته، وأنا أصرخ «أستاذ طلال أستاذ طلال نجحت الثورة وأسقطت الرئيس»، لقد كان يقرأ القادم بنظرة صحافي محترف نادر في زمن الكتبة والمدعين، أستاذ طلال كم أنت حاضر في غيابك!!
* ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية.